بحث فى المدونة

الثلاثاء، 30 مارس 2021

هى فلسطين وليست (اسرائيل)


 ·       فلسطين ارض عربية منذ الفتح الاسلامى وقبله، اختصصنا بها ما يزيد عن 14 قرن وعشنا عليها ولم نغادرها ابدا. ودافعنا عنها جيلا وراء جيل، ونجحنا من قبل فى تحريرها من الغزو الصليبى 1096 ـ 1291.

·       والادعاءات الصهيونية بالحقوق اليهودية فى فلسطين هى ادعاءات كاذبة، وكذلك كل الأساطير الزائفة حول ارض الميعاد والأمة اليهودية والشعب اليهودى.

·       والوجود اليهودى الصهيونى الحالى على ارض فلسطين هو وجود غير مشروع يستند الى تواطؤ استعمارى ودولى على امتداد قرن من الزمان، فوعد بلفور وصك الانتداب البريطانى والهجرات اليهودية الكبرى فى القرن العشرين وقرار التقسيم وإعلان قيام دولة (اسرائيل) ومعاهدات السلام العربية الاسرائيلية، كلها غير مشروعة وتمت بالإكراه ضد إرادة الشعب العربى ورغما عنه فى ظل خضوعه لفترات طويلة من الاحتلال الاجنبى أو الاستبداد الداخلى.

·       ولقد اغتصب الصهاينة فلسطين من خلال ارتكاب أبشع انواع المذابح وحروب الإبادة، لإخراجنا من أراضينا. وما بنى على اغتصاب هو اغتصاب ولو طال به الزمن، فالأوطان لا تضيع بالتقادم. 

·       لكل ذلك فان هذا الكيان الصهيونى المسمى بدولة (اسرائيل) هو كيان غير مشروع ودولته دولة غير مشروعة ولن تكون.

·       بالإضافة الى ذلك فان هذا الكيان قام بهدف فصل مشرقنا عن مغربنا، والحيلولة دون وحدتنا، وليكون عصا استعمارية دائمة لتأديبنا والحيلولة دون نهضتنا، ان وجوده يهددنا جميعا وليس فلسطين فقط.

·       وعلى ذلك فان الاعتراف (بإسرائيل) يمثل تنازلا عن أرضنا وتهديدا لوجودنا واستسلاما لعدونا.

·       ان الاعتراف يعنى القبول بمشروعية الاغتصاب الصهيونى لفلسطين، والقبول بصحة الأساطير الصهيونية حول الأمة اليهودية والشعب اليهودى وحقه التاريخى فى ارض الميعاد.

·       وهو يعنى الاعتراف بان الحركة الصهيونية حركة تحرر وطنى، نجحت عام 1948 فى تحرير وطنها المغتصب من الاستعمار العربى الاسلامى، والذى يحتفلون بذكراه كل عام فى عيد يطلقون عليه "عيد الاستقلال".

·       واذا كان هذا صحيحا ــ وهو ليس كذلك ــ فان الضفة الغربية وغزة، هى الاخرى، وبذات المنطق، ارض يهودية مما يستوجب تحريرها عاجلا ام آجلا من الاحتلال العربى لها.

·       وسيكون وبالقياس وجودنا نحن ايضا هنا فى مصر وباقى الاقطار العربية وجودا غير مشروع، فنحن نمثل، بذات المنطق، احتلالا عربيا اسلاميا لأراضى الغير.

·       ان الاعتراف (باسرائيل) فى حقيقته هو عملية انتحار جماعى، بموجبه تقرر الأمة العربية الانتحار وتعترف بان وجودها على هذه الأرض هو وجود باطل وغير مشروع على امتداد 14 قرن وأكثر.

·       كما انه اذا كانت (اسرائيل) مشروعة ــ وهى ليست كذلك ــ فمن حقها ان تفعل ما تريده للحفاظ على وجودها وعلى أمنها. وعلى ذلك فان الاعتراف بها يجعل من المقاومة إرهابا، ويجعل من ارهابها دفاعا مشروعا عن النفس، فاعترافنا بها يعطيها رخصة لقتلنا وإبادة شعبنا.

·       ان الاعتراف هو جريمة تاريخية وعملية انتحار مجنونة.

·       كما ان التنازل عن الأوطان ليس من صلاحيات أحد، فالأوطان ملكا جماعيا مشتركا لكل الأجيال الراحلة والحالية والقادمة، ولكل جيل حق الانتفاع بالوطن فقط، فليس من حقه التنازل او التفريط او التصرف فيه.

·       ان اعتراف الانظمة العربية بدولة (اسرائيل) والسلام والتطبيع معها، غير مشروع وانحياز للعدو.

·       ولو أجمعت كل دول العالم على الاعتراف (بإسرائيل)، لما ألزمنا ذلك بشىء.

·       اما الأمم المتحدة وما يسمى بالشرعية الدولية فلا يجب ان تكون مرجعية لنا على اى وجه، فكل الشرعيات الدولية والقوى الكبرى على امتداد قرنين من الزمان هى التى سلبت منا حياتنا واحتلت أوطاننا وناصبتنا العداء ولا تزال، انهم العدو الاصلى.

·       ان العجز المؤقت عن تحرير أوطاننا، وتأخر النصر بسبب اختلال موازين القوى لا يعطى مبررا للاستسلام، وإنما يفرض علينا الصمود لحين توفير شروط النصر ولو جاءت من الاجيال القادمة.

·       كما ان فى تاريخنا الحديث انتصارات كبيرة ومعارك تحرر ناجحة على امتداد الوطن العربى، وبعض معاركنا استمرت 130 عاما مثل الجزائر، فهل نستسلم الان!

·       كما ان مقاومة الاحتلال لم تتوقف يوما واحدا على امتداد قرن من الزمان، وفى تاريخنا الحديث انتصارات حقيقية وقريبة على الكيان الصهيونى وحلفائه؛ مصر 1973 ولبنان 2000 و2006 والانتفاضات الفلسطينية 1987 و2000 وغزة 2012 و2014 وغيرها .. فلماذا نستسلم ونحن قادرون على النصر!

·       وانظروا حولنا لشعوب عظيمة قد تحررت وغيرت مصائرها، شعوب لا نقل عنها حضارة او وطنية، انظروا للصين والهند وفيتنام وجنوب افريقيا وغيرها.

·       كما ان السلوك العدوانى الدائم للعدو الصهيونى يقوى من قناعاتنا باستحالة القبول بوجوده على أرضنا، فمذابح دير ياسين وكفر قاسم وغزة 55 وعدوان 56 و67 و82 وصابرا وشاتيلا وقانا وغزة 2009 و2012 و2014 وجرائم الابادة والقتل والاغتيال والاستيطان التى لا تتوقف، هى تأكيد على صحة مواقفنا المبدئية.

·       ثم الذين اعترفوا (باسرائيل)، ماذا اخذوا فى المقابل؟ لم يأخذوا شيئا، بل فقدوا السيادة على ابسط قراراتهم.

·       ان الذين يتصورون انهم باعترافهم (بإسرائيل)، انما يأخذون الممكن والواقعى الوحيد فى ظل موازين القوى الحالية، الى ان تتغير الظروف الدولية فى المستقبل لصالح القضية، انما هم واهمون، فهم يتناسون تاريخنا على امتداد قرن كامل؛ فتسويات الحرب العالمية الأولى ما زالت قائمة حتى الان، لم نستطع المساس بها رغم الإجماع على رفضها.

·       وها هى مصر بكل قدرها وقوتها ومكانتها عاجزة رغم مرور أكثر من اربعين عاما، عن انجاز أى تعديل فى الترتيبات الأمنية المفروضة عليها بموجب اتفاقيات كامب ديفيد منذ 1979 والتى تقيد إرادتها الى ابلغ حد وتمس سيادتها على ارضها.

·       بل على العكس تماما من ذلك، فلقد أدى اعتراف مصر ومنظمة التحرير والاردن وعديد من الانظمة العربية (باسرائيل) على امتداد 40 عاما، الى اضفاء شرعية باطلة على الكيان الصهيونى ودعم وتثبيت وتقوية وجوده، مما مكنه من التحول الى دولة اقليمية عظمى فى المنطقة، تفرض ارادتها على الجميع، وتفرض السلام بالقوة والاكراه على الدول العربية وليس بالانسحاب من اى ارض محتلة، كما يصرح نتنياهو مرارا وتكرارا.

·       ان ما ستأخذونه من (إسرائيل) بالتسوية اليوم، سيكون هو نهاية المطاف لعقود طويلة قادمة. هذا ان أعطتكم شيئا. ولن تفعل.

·       ان الاعتراف (بإسرائيل) استسلام وخيانة.

***** 
محمد سيف الدولة

الجمعة، 26 مارس 2021

كامب ديفيد نظام حكم وليس معاهدة


 يخطئ من يتصور أن معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية الموقعة فى 26 مارس 1979، والتى تحل هذا الشهر ذكراها الثانية والاربعون والمشهورة باسم اتفاقيات كامب ديفيد، هى مجرد اتفاقية ثنائية استطاعت مصر من خلالها استرداد ارضها المحتلة، مقابل اقامة علاقة طبيعية مع (اسرائيل) وبعض الترتيبات والتنازلات الامنية والعسكرية المصرية فى سيناء.

***

فكامب ديفيد هى أشمل وأخطر من ذلك بكثير؛ هى نظام حكم كامل متكامل، وضعه الامريكان و(اسرائيل) وحلفاؤهم لتفكيك مصر التى حاربت وانتصرت فى حرب 1973، وبناء مصر اخرى تابعة للامريكان لا ترغب فى قتال (اسرائيل) او فى تحديها، وان رغبت لا تستطيع. ان كامب ديفيد هى عصر كامل قائم بذاته ونظام حكم يتدخل فى كل صغيرة وكبيرة فى حياتنا منذ سبعينات القرن العشرين حتى يومنا هذا.

انه ذلك النظام الذى كتبت عنه كثيرا تحت عنوان الكتالوج الامريكى لحكم مصر، والذى يمكن تلخيصه فيما يلى:

1)   تجريد ثلثى سيناء من القوات والسلاح الا بإذن (اسرائيل) وفقا للملحق الامنى من المعاهدة، حتى تظل رهينة التهديدات الاسرائيلية المستمرة، بما يمثل اقوى اداة ضغط واخضاع فعالة لاى ارادة مصرية، خاصة فى ظل عقدة 1967 التى لا تزال تسيطر على العقل الجمعى لمؤسسات الدولة المصرية.

2)   مع اعطاء الامريكان موطئ قدم فى سيناء، وقبول دخول قواتهم الى هناك لمراقبة القوات المصرية، ضمن ما يسمى بقوات "متعددة الجنسية والمراقبين" التى يرأسها سفير فى وزارة الخارجية الامريكية ولا تخضع للامم المتحدة.

3)   مع اعطائهم تسهيلات لوجستية فى قناة السويس والمجال الجوى المصرى، قال عنها الامريكان، انها كان لها دورا كبيرا فى نجاح قواتهم فى غزو العراق.

4)   مع الانخراط فى كل احلافها العسكرية، والالتزام بما تقيمه من ترتيبات امنية فى الاقليم، وتنفيذ الادوار والمهام التى تطلبها منا فى حروبها واعتدائاتها العسكرية فى المنطقة بدءا بما يسمى بحرب تحرير الكويت مرورا بغزو افغانستان والعراق .. وحتى يومنا هذا.

5)   تصفية الاقتصاد الوطنى الذى كان يدعم المجهود الحربى اثناء الحرب، واستبداله بمعونة عسكرية امريكية 1.3 مليار دولار تستهدف ترسيخ النفوذ الامريكى فى مصر واحتكار غالبية التسليح المصرى والتحكم فى موازين القوى لصالح (اسرائيل) مع تسليم الاقتصاد المصرى الجديد لصندوق النقد والبنك الدوليين لادارته وتوجيهه والسيطرة عليه.

6)   تاسيس نظام حكم سياسى جديد تكون على راس اولوياته حماية امن (اسرائيل) والحفاظ على مصالح الولايات المتحدة الامريكية، التى يجب ان توافق على شخصية رئيس الجمهورية وفقا للتصريح الشهير للدكتور "مصطفى الفقى" عام 2010، مع فرض حصار سياسى وامنى على كل من يرفض الاعتراف باسرائيل ويناهض اتفاقيات كامب ديفيد.

7)   استئثار وسيطرة راس المال الاجنبى والمحلى على مقدرات البلاد وثرواتها. وصناعة طبقة من رجال الاعمال المصريين تكون لها السيادة على باقى طبقات الشعب، وتقوم بدور التابع والوكيل المدافع عن مصالح وسياسات الامريكان والصهاينة فى مصر.

8)   تصفية اى تيارات وطنية ايا كانت مرجعيتها الايديولوجية، تناهض الولايات المتحدة و(اسرائيل)، مع كسر شوكة الشعب المصرى والقضاء على روح الانتماء الوطنى لديه.

9)   وتفاصيل أخرى كثيرة لا نزال نعيش تحت وطأتها حتى اليوم.

***

ان الذين يدَّعون ان (السلام المصرى الاسرائيلى) اصبح امرا واقعا وراسخا اليوم، وواحدا من اهم الركائز والمسلمات والثوابت التى تقوم عليها الدولة المصرية ومؤسساتها وسياساتها، ويدَّعون ان التطبيع الجارى اليوم على قدم وساق بين عديد من الدول العربية وبين (اسرائيل)، يثبت صحة وحكمة  الطريق الذى انتهجته مصر مبكرا منذ اربعين عاما، ويتهمون قوى المعارضة الوطنية بانهم ما زالوا يعيشون فى العصور الوسطى، ويسفهون مواقفهم التى تناهض (اسرائيل) وترفض الاعتراف بشرعيتها والتطبيع معها وتطالب باسقاط المعاهدة والتحرر من قيودها وآثارها المدمرة...

الى هؤلاء، نقول ونؤكد أن فصل النهاية لم يكتب بعد، وأن الامور يستحيل ان تستقيم وتستقر فى مصر أو المنطقة كلها، بعد عام او عقد او بضعة عقود الا بعد تحرير مصر من براثن التبعية ومن قيود المعاهدة لكل الاسباب التى ذكرناها عاليه، بالإضافة الى تحرير كامل الارض المحتلة وتطهير المنطقة كلها من هذا الكيان المسمى باسرائيل.

وتأملوا حالة الرفض الشعبى المصرى القاطع للتطبيع مع العدو رغم مرور 42 عاما على المعاهدة، فهذا الشعب الكريم الذي قد يظهر للبعض احيانا انه قد خضع واستسلم للامر الواقع، ما ان نال حريته الحقيقية لبضعة شهور قليلة ابان ثورة يناير، الا وانطلقت جموعه الغاضبة لحصار السفارة الاسرائيلية واغلاقها فى سبتمبر 2011، لتعيد وتؤكد حقائق ثابتة على مر التاريخ من ان الشعوب لا تستسلم ابدا لاعدائها. فلعلها تكون عبرة لمن يعتبر.

*****

القاهرة فى 26 مارس 2021

    

الأحد، 7 مارس 2021

طارق البشرى ..المكانة والحصار والقصف

المكانة:

فى الايام القليلة الماضية التى أعقبت رحيل المستشار طارق البشرى، انبرى العديد من كبار الكتاب والمفكرين ومن تلاميذه وقرائه للتعبير عن حزنهم وألمهم الشديد لفراقه، مع حرص كل منهم على ذكر ما لمسه بنفسه من سمات وخصائص نادرة ومميزة للراحل الجليل، كقاض مستقل وعادل ونزيه، وفقيه قانونى ودستورى من الوزن الثقيل، ومفكر وطنى واسلامى مستنير، ومؤرخ مدقق واسع الاطلاع، ومناضل صلب وانسان مستقيم ومتواضع وخلوق. ولقد تكرر بين هذه الكتابات وصفه "بالمدقق والمحقق والمنصف والنزيه"، وكلها اوصاف صحيحة تماما، يرصدها من اول وهلة كل من تواصل مع المستشار البشرى فكريا او انسانيا.

 

والتدقيق والانصاف والنزاهة اذا اضيفت للعلم والمعرفة، هى صفات فى غاية الاهمية تضفى على أفكار وآراء ومواقف صاحبها درجة عالية من الصحة والمصداقية والموضوعية، تجعل منه مرجعا مؤتمنا موثوقا به فى مجتمعه ووطنه وأمته، يلجأ اليه الناس لتستفتيه وتحتكم اليه فيما هو دائر من قضايا وخلافات حين تختلط عليها الأمور وتضطرب الرؤى، بالذات فى اوقات الازمات والانقسامات والفتن والصراعات.    

ولقد كان "البشرى" بحق واحدا من اهم المرجعيات الوطنية والقانونية والتاريخية التى تثق قطاعات واسعة من التيارات الفكرية المختلفة فى أمانته ونزاهته فتلجأ اليه لتستشيره فى العديد من الامور.

 

واذا كان لكل تيار مرجعياته وشيوخه ومفكريه، الا أن هناك قلة من المفكرين تجد كتاباتهم فى "مسألة او مسائل بعينها" تمثل مرجعا مشتركا لدى كل التيارات الفكرية والسياسية فى المجتمع. وهو ما ينطبق على كثير مما كتبه الراحل الكريم عن ثورة 1919 أو الحركة السياسية 1945-1952 أو عن الجماعة الوطنية او دفاعا عن استقلال القضاء والحرية والديمقراطية فى مواجهة الاستبداد والطغيان، وهكذا.

واذا كان لكل امة شيوخها، فلقد كان "طارق البشرى" من ابرز "شيوخ مصر الوطنيين" على امتداد الخمسة عقود الماضية.

ولذلك حين تم اعلان رئاسته للجنة التعديلات الدستورية بعد ثورة يناير، تقبل الجميع هذا الاعلان بقدر كبير من الثقة والارتياح.

اما ما حدث بعد ذلك من انقسام قوى الثورة على الاستفتاء، او ما صرح به المستشار البشرى لاحقا من انه قد شارك فى تحديد واعداد التعديلات الدستورية بشرط ان تكون ضمن حزمة أخرى متكاملة من التشريعات والقوانين الواجبة والمكملة، التى تم تجاهلها والاكتفاء بالتعديلات فقط، فان هذا قد يكون موضوع لحديث آخر، يأتى فى سياق حوار أشمل حول "ثورة يناير من الوحدة الى الانقسام والفشل."

***

الإنفتاح الفكرى:

وحين نتحدث عن "طارق البشرى" كاحد شيوخ مصر الوطنيين ومرجعياتها، فاننى لا احبذ أبدا التركيز على التحولات والتطورات الفكرية التى مر بها، وانحياز البعض الى توجهاته اليسارية او القومية او الاسلامية على امتداد سنوات عمره، لأننى أتصور أنه استفاد كثيرا من انفتاحه على كل هذه التيارات والمدارس واستطاع ان ينسج منها جميعا سبيكته الفكرية الخاصة والمميزة، التى لم يكن من الممكن ان تخرج لنا بهذا العمق فيما لو كان منبعها مدرسة فكرية واحدة كائنة من كانت. كما ان الانحياز الى مرحلة بعينها سيخرجنا من دائرة المشتركات التى مثلت الهاجس الأهم والأكبر لدى المستشار الجليل، كما انها قد تفتح الباب لتسرب جرثومة الانقسام التى ضربتنا فى السنوات الأخيرة، لتعكير صفو الحوار الدائر اليوم حول انتاجه ومشروعه الفكرى وتوظيف وفاته فيما لا يصح ولا يليق.

***

الحصار والمنع والخسارة المضاعفة:

حين تفقد الامة واحدا من كبار مفكريها، فانها تشعر بخسارة فادحة، خاصة اذا كان من الصعب ان ياتى من يسد الفراغ الذى تركه المفكر الراحل.

ولكن فى حالة المستشار الراحل فان الخسارة مضاعفة؛ فبالفعل كان للرجل ملكات فكرية وبصيرة متميزة، كانت تمكنه حين يتناول اى مسألة، من وضع يديه على جوانب وزوايا جديدة وحقيقية لم يسبقه اليها أحد. وهذا هو ما ساهم فى صنع هذه المكانة المتميزة عند كل من قرأ او استمع له.

ولكن هناك خسارة اضافية فى حالة رحيل "البشرى"؛ فرغم انه كان يعيش بيننا حيا يرزق متمتعا بكامل لياقته الفكرية والذهنية، الا اننا كنا محرومين من آرائه واجتهاداته ولمساته الخاصة والمتميزة فى السنوات الأخيرة، بسبب انه كان ممنوعا من الكتابة والنشر فى اى من الصحف ومن المشاركة فى اى من المنابر الاعلامية والندوات الفكرية.

وهو ما أدى الى حرمان الراى العام المصرى والعربى من اسهاماته المتميزة والكاشفة والمؤثرة فى عديد من القضايا والاحداث الهامة والرئيسية التى حدثت فى مصر والمنطقة والعالم فى السنوات الماضية مثل تيران وصنافير والتعديلات الدستورية واستقلال القضاء وقيود الحياة السياسية والبرلمانية وصفقة القرن والتطبيع الخليجى المغربى السودانى مع (اسرائيل) وبلطجة ترامب وكذلك الانقسام الحاد بين التيارات والقوى السياسية المصرية وغيرها الكثير.

وهو الذى كان له اسهامات متعددة وعميقة فى قضايا مماثلة ومشابهة على امتداد سنوات عطائه الطويلة.

فهى خسارة مضاعفة لا يمكن تعويضها، بالاضافة لما فيها من اهدار لثرواتنا الفكرية كإحدى المكونات الرئيسية للقوى الناعمة المصرية والعربية، خاصة انه لم يكن وحده من الممنوعين، فالقائمة تطول من كتاب ومفكرين وصحفيين من الوزن الثقيل، نفتقد اطلالاتهم ومساهماتهم بشدة، أطال الله فى اعمارهم جميعا.

***

بناء الجسور والقصف:

لقد كانت تربطنى به عليه رحمة الله علاقة وطيدة، قرأت واستمعت له وتحاورت معه وتعلمت منه كثيرا، ولكن هناك مما قاله، ما لا يفارق ذهنى ابدا، وذلك حين تناول الخلافات الدائرة بين تيارات الامة حول الاسلام ومدنية الدولة، وكيف انه اراد التقريب بين وجهات النظر بحكم انفتاحه عليها جميعا، واطلاعه واستيعابه وتقديره لاصولها ومرجعياتها الفكرية فى مراحل متعاقبة من حياته، فحاول مد الجسور بينها والتركيز على المشتركات مع رصد وتذويب الخلافات وحصرها فى اضيق نطاق.

يقول "البشرى" انه كان يتصور ان هذا الدور "من بناء جسور الحوار والتفاهم والتلاقى بين تيارات الأمة" سيكون محل تقدير، ولكنه فوجئ بالعكس تماما، فلقد بدأ منذ ذلك الحين يتعرض للقصف والهجوم الضارى، ليكتشف ان هناك من يحرص ويصر على بقاء هذه الانقسامات، بل يعمل على تعميقها وتغذيتها باستمرار، ويستهدف ضرب وافشال واجهاض اى محاولات للتقارب بين فرقاء الوطن المشترك والأمة الواحدة.

وهى شهادة هامة جدا من مفكر فى مكانة طارق البشرى، تؤكدها مئات الشواهد المماثلة على امتداد السنوات والعقود الماضية، والتى قد يكون هناك ضرورة لتناولها فى أحاديث وحوارات أخرى.

***

ستظل كتب ومؤلفات واسهامات الاستاذ طارق البشري، جزءا اصيلا من تراثنا ومرجعياتنا الفكرية، وأتصور أن أفضل طريقة لتكريمه هى السير على نهجه فى محاولات رأب الصدع وبناء الجسور والبحث عن المشتركات بين تيارات الامة وفرقائها.

                                                                *****                           

محمد سيف الدولة