بعد احتلال دام ما يقرب من عشرين عاما (2001 ـ 2021)، أعلن الرئيس الامريكى جو بايدن انه قرر سحب القوات الامريكية من
افغانستان، على ان تبدأ عملية الانسحاب بدءا من اول مايو القادم وتكتمل قبل 11
سبتمبر 2021.
ولقد برر بايدن الانسحاب بحزمة من الاسباب، لم يأتِ فيها على ذكر الحقيقة
الواضحة للجميع، وهى انهم ينسحبون بسبب هزيمتهم امام المقاومة الافغانية المسلحة
وعملياتها الموجعة التى اسقطت ما يقرب من 2500 قتيل امريكى وفقا لتصريحات بايدن
نفسه.
لنكون بذلك امام ثانى اكبر هزيمة عسكرية تلحق بالولايات المتحدة خلال نصف القرن
المنصرف، الاولى بطبيعة الحال كانت على ايدى المقاومة الفيتنامية التى اجبرتها على
الانسحاب فى 15 اغسطس 1973.
فى الحالتين كانت المقاومة الوطنية المسلحة، أيا كانت مرجعيتها
الايديولوجية، هى التى اجبرت قوات الاحتلال على الانسحاب، قادها الشيوعيون فى
فيتنام وقادتها طالبان فى افغانستان.
لم اتعرض هنا للعراق بطبيعة الحال، فقواعدهم وقواتهم وهيمنتهم لا تزال قائمة
ومتغلغة هناك، رغم كل التصريحات الامريكية المتكررة منذ اوباما حتى اليوم بانسحاب
قواتها من هناك.
أما ايران، فلقد نجحت فى تحرير بلادها من التبعية والنفوذ الامريكى منذ
الثورة الاسلامية، لتنضم الى قائمة الدول المعادية للولايات المتحدة ككوريا
الشمالية وكوبا وفنزويلا.
ورغم الحصار والعقوبات القاسية التى تفرضها الولايات المتحدة وحلفاؤها
ومجتمعها الدولى على مثل هذه الدول التى يصفونها "بالمارقة"، الا انها
لا تزال حية ترزق، لم تفنَ او تتبدد. ويجب ان نتذكر على الدوام تجربة الصين وأين
اصبحت اليوم بعد عقود وقرون طويلة من الاحتلال والحصار والعزل.
***
ان الهدف من تناول الانسحاب الامريكى من افغانستان وامثاله، هو التاكيد على
ان الولايات المتحدة الامريكية ليست ربنا، وليست قوة جبارة لا يمكن تحديها او
هزيمتها، بل على العكس تماما؛ يمكن مقاومتها والانتصار عليها وكسر ارادتها
واجبارها على التراجع والانسحاب.
انها حقيقة واضحة وبديهية تشمل امريكا وكل انواع الاحتلال الاجنبى الذى
شاهدناه وعشنا تحت وطأته على امتداد القرنين الماضيين، الى ان نجحنا فى اعقاب
الحرب العالمية الثانية فى التحرر منه واجباره على الانسحاب من اوطاننا ونلنا استقلالنا
الذى طال انتظاره.
صحيح انه استقلال لم يستمر ولم
يكتمل، ولكن كان ذلك بسبب اخطائنا وخطايانا وخيانات البعض منا، ولم يكن بسبب جبروت
الاحتلال وقوته التى لا تقهر.
***
كما ان اجبار العدو والمحتل على الانسحاب ليس جديدا علينا ولا يقتصر على
معارك التحرر الوطنى بعد الحرب العالمية الثانية، فلقد نجحنا فى اجبار العدو
الصهيونى على الانسحاب من اراضينا المحتلة فى لبنان 2000 و2006 وفى غزة 2005،
وبالطبع فى مصر بعد حرب 1973 مع تحفظنا الذى لا مجال له هنا على اتفاقيات كامب
ديفيد.
***
ما أحوجنا الى التأكيد على هذه الحقائق فى
مواجهة:
·
ما تعيشه الامة العربية اليوم من احتلال
وتبعية وأحلاف وهيمنة عسكرية واستراتيجية واقتصادية بلا حدود، وانتشار القواعد والقوات
الامريكية فى كل مكان، ناهيك عن عربدة القوات الاجنبية من كل صنف ولون، مع القضاء
على اى قرار عربى مستقل وتدويل كل قضايانا وتوزيع دولنا كذيول وملحقات فى احلاف ومحاور
وصراعات دولية واقليمية لا ناقة لنا فيها ولا جمل.
·
وفى مواجهة حكام وحكومات وانظمة حكم تستمد
وجودها وشرعيتها من الحماية الامريكية، التى قال عنها ترامب، انه لولاها لسقطت هذه
الدول خلال اسبوع واحد.
·
وفى مواجهة اعلام عربى رسمى لا يتوانى عن
تضليل الشعوب ومحاولة تزييف وعيها بالترويج للاحتلال وبث قيم اليأس والخضوع
والاستسلام، تحت نظريات كاذبة وباطلة تنطلق من انه لا قبل لنا بتحدى الامريكان وان
الطريق الوحيد للتقدم والنجاة هو التحالف معهم والاحتماء بهم والسير فى ركابهم،
وانه لا قبل لنا بمواجهة (اسرائيل) بل علينا ان نعترف بها ونطبع ونتحالف معها.
·
وفى مواجهة عُقَد وهمية استقرت وترسخت فى عقل
ووجدان صناع القرار الرسمى العربى لعقود طويلة، مثل عقدة 1967 وعقدة ما حدث للعراق
وصدام حسين 1991 ـ 2003 او للقذافى عام 2011 بدعم من حلف الناتو، وعقدة الرعب من عواقب
التعرض للغضب والعقوبات التى تعيشه الدول التى خرجت عن طوع الامريكان.
***
فى مواجهة كل ذلك وأكثر يتوجب علينا ان نتبنى خطاب
واجندات واستراتيجيات التحرر والاستقلال والمواجهة ضد قوى الاحتلال الامريكية
والصهيونية واى قوات أجنبية أخرى، فلسنا اقل من شعوب العالم التى فعلتها من قبلنا ولا
يجب ان نكون اقل من آبائنا واجدادنا الذين تصدوا وقادوا معارك التحرير فى ازمانهم.
***
ولا يصح ولا يليق التهرب من المواجهة بذريعة ان انظمة
الوطن العربى وحكامه يحكمون شعوبهم بالحديد والنار، وانه لا حول ولا قوة للشعوب
امام استبدادها وقوة بطشها.
فكذلك كان الحال فى كل البلاد التى خضعت
للاحتلال، ففى افغانستان هناك مقاومة وطنية تقاتل وتضغط من اجل التحرر وانسحاب القوات
الاجنبية، وفى المقابل هناك حكومة افغانية تابعة وموالية للامريكان، تستمد وجودها
وبقاءها فى الحكم والسلطة منهم، وترفض انسحاب قواتهم وتصر على بقائهم.
نفس الشئ كان فى حكومة فيتنام الجنوبية التابعة للامريكان قبل سقوطها وتوحد
فيتنام بعد الانسحاب الامريكى.
انه ذات المشهد المتكرر فى بلادنا منذ قديم الزمان، وما زلنا نتذكر مشهد
الخديوى توفيق وهو يستدعى الانجليز لوأد الثورة العرابية وحمايته منها، وما ترتب علي
ذلك من اخضاع مصر للاحتلال البريطانى لما يزيد عن 70 عاما، حكمتنا فيه اسرة محمد
على تحت الحماية البريطانية.
فالاحتلال فى اى مكان يحرص دائما على صناعة سلطة خاضعة وموالية له من اهل
البلاد. حتى فى فرنسا حين احتلها الالمان عام 1940 فانهم صنعوا حكومة فرنسية موالية
لهم هى حكومة فيشى، التى تم محاكمة قادتها بعد التحرير.
ان وجود محميات امريكية تستبد بشعوبها وتحكمهم بالحديد والنار لا يمكن ان
يكون سببا للعزوف عن خوض معارك التحرر والاستقلال، بل هو الدافع الرئيسى للاقدام
عليها والانخراط فيها.
*****
محمد سيف الدولة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق