أن يصل بنا الأمر لمناقشة بديهيات مثل أهمية
الانتخابات للشعوب والمجتمعات، فان ذلك يعكس حالة البؤس والتراجع التى وصلت اليها الأوضاع
السياسية فى الوطن العربى.
ففجأة أصبحت الانتخابات فى بلادنا العربية، متهمة
ومدانة ومكروهة، بحجة انها تجلب الى السلطة جماعات متطرفة وارهابية أو شخصيات
فاسدة.
·
قالوا ذلك عن مصر بعد ان أتت صناديق الانتخابات
البرلمانية والرئاسية بالإسلاميين.
· ويقولونه اليوم فى تونس تبريرا لقرارات
الرئيس التونسي بتجميد البرلمان المتهم بسقوطه تحت سيطرة تحالف من الاسلاميين
والفاسدين.
·
وتتخذه السلطة الفلسطينية على الدوام ذريعة
لتأجيل الانتخابات فى الارض المحتلة.
·
حتى الرئيس الأمريكي الاسبق "اوباما"
الذي صدع رؤوسنا بالدفاع عن الحرية والديمقراطية فى بلادنا، فلقد قالها صراحة فى
حملته الانتخابية الاولى، حين صرح أمام اجتماع لمنظمة الايباك، انه كان يرفض اجراء
انتخابات فلسطينية فى 2006 لانها ستجلب فصائل متطرفة وارهابية لا تعترف (باسرائيل).
·
بالاضافة الى ذرائع وتبريرات اخرى غير ذريعة
فوبيا الاسلاميين، يرددها شخصيات او احزاب محسوبة على اليسار، من منظور الرفض
للديمقراطية على الطريقة الليبرالية، التى يصفونها بالديمقراطية المفرغة من اى
مضامين اجتماعية والتى لا تاتى الا بالرأسماليين ورجال الاعمال والفاسدين.
***
ولكن ما هى الانتخابات؟
·
هى بكل بساطة ذلك النظام الذى أبدعته البشرية
لتمكين المجتمعات من اختيار نخبة منها تقود وتدير المجتمع المشترك فى الاتجاه الذى
تتفق الاغلبية انه الاصلح لهم.
·
قد يكون هذا المجتمع دولة او حزبا او تنظيما سياسيا
علنيا او سريا او نقابة مهنية او عمالية أو جامعة او ناديا او جمعية تعاونية الى آخره
من آلاف التكوينات الاجتماعية التى يؤسسها البشر فى حياتهم فى كل مكان.
·
وفى كل هذه المجتمعات والتجمعات والحالات فان
الطريقة الامثل للاختيار هى مشاركة كل اعضاء هذا المجتمع المشترك بحرية تامة فى
اختيار من يرونه الانسب من بين عديد من المرشحين.
·
ينطبق هذا الكلام على الانظمة الاشتراكية كما
على الانظمة الرأسمالية، وعلى الاحزاب الليبرالية والشيوعية كما على التنظيمات
الاسلامية.
· فليس صحيحا ان الانتخابات هى اداة ليبرالية،
تقتصر فقط على الانظمة الراسمالية. أو انها مبدأ خاصا بالغرب.
· كما انه لا يعقل أن نرفضها ونلفظها لأن دولا
استعمارية كالولايات المتحدة تدعى زورا انها حاملة راية الديمقراطية والحريات
والانتخابات الحرة فى العالم.
· فهى حلا مناسبا وفعالا لاختيار ادارة او
قيادة للمجتمعات الواحدة المشتركة التى تضم رؤى وافكار واشخاص ومصالح متعددة ومختلفة،
من خلال التوافق على آلية أو نظام يتم الاحتكام الحر اليه عند التعدد والاختلاف.
· وهى فى ذلك تمثل آلية ناجعة
وصالحة ومتاحة للجميع، اشرارا كانوا ام اخيارا.
·
حتى العصابات التى تعيش فى الكيان الصهيونى فانهم يختارون حكامهم
بالانتخابات.
·
وبالطبع فان هذا لا يصادر حق الجميع فى توجيه انتقاداتهم الى مثالب النظام
الليبرالى ونواقصه، وأن يقدمون مفهومهم المنهجى الخاص البديل للحرية والديمقراطية
وأن يناضلوا من أجله، ولكن بشرط ألا يقوموا بإدانة الانتخابات كوسيلة ضرورية
للاختيار بين متعددين فى أى نظام أيا كانت طبيعته.
***
أما عن المخاطر الناتجة عن
الانتخابات فى حالة اذا أتى الصندوق بما لا تشتهى السفن، وقامت غالبية الناخبين بالاختيار
الخطأ، فلقد ابتدعت البشرية ايضا حلولا لهذه المشكلة المحتملة بسن وتأسيس قواعد
وأدوات للمراجعة والتصحيح، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر:
·
أنها جعلت التمثيل مؤقتا بعدد محدد من
السنوات.
·
كما انها أعطت الاقلية الحق فى المعارضة بكل
السبل والادوات السياسية والقانونية، لقرارات وسياسات الحكام والحكومات الذين أتت
بهم هذه الاغلبية.
·
كما قامت بالفصل بين السلطات، بحيث يخضع
المنتَخبون لرقابة باقى السلطات، مثلما يخضع الرؤساء لرقابة السلطتين التشريعية
والقضائية، ويخضع النواب البرلمانيون لرقابة الاحزاب والاعلام الحر والراى العام
والناخبين فى دوائرهم.
·
وضمانات أخرى كثيرة، بحيث لا يسمح لاى هيئات
او شخصيات منتخبة بالاستئثار بالسلطة مما يمكنها من تغيير قواعد اللعبة وفقا
لمشيئتها ومصالحها الخاصة، وما أكثرها.
***
ما هى البدائل عن الانتخابات؟
ولكن أياَ كانت المبررات او الذرائع التى
تساق لنقد فكرة الانتخابات فى عالمنا العربى، فان النتائج المترتبة على مثل هذه
الدعوات مجربة ومعروفة ومحفوظة وهى لن تخرج عن واحد من الخيارات التالية:
1)
غياب اى مؤسسات منتخبة كما هو متبع فى عدد من
دول الخليج، التى تخضع لحكم عائلات مالكة منذ عشرات السنين.
2)
او تجميد وحل واسقاط الهيئات والشخصيات
المنتخبة، وفقا لموازين القوى وشبكات المصالح.
3)
او الاجتثاث السياسى لتيارات بعينها وحظرها
من المشاركة السياسية والبرلمانية.
4)
أو فرض قيود سياسية وقانونية عليها، تحد من
قدرتها على الوصول الى الحكم.
5)
او تزوير الانتخابات...الخ.
والنتيجة فى كل هذه الحالات هو ان يتم حكم الدول
بأنظمة أو احزاب أو فئات أو شخصيات وقادة غير منتخبين فى انتخابات حقيقية ونزيهة.
ومخاطر هذا البديل جمة ومتعددة كما
يعلم الجميع، على رأسها هو انعدام أى اداة أو وسيلة للتغيير فى حالة الفشل او الفساد
أو الاستبداد أو الهزائم والانكسارات الكبرى.
***
·
ان الانتخابات هى أحد اركان الديمقراطية
والحريات فى اى مجتمع، ولكنها ليست الركن الوحيد، فهى غير قادرة وحدها على بناء
نظاما ديمقراطيا حقيقيا، ولكن بدونها ليس هناك ديمقراطية من اى نوع.
·
ولان الناس لا تكف عن السعى لتطوير اوطانها
ومجتمعاتها المشتركة من اجل حل مشكلاتها وسد احتياجاتها، فانه اذا أُغلقت فى
وجوهها اى قنوات او سبل لتحقيق ذلك بطرق دستورية وقانونية، فانها ستحاول ان تفعلها
ان عاجلا أو آجلا خارج نطاق القانون فى شكل ثورات او انتفاضات، مما يهدد حالة
الاستقرار الواجبة لتحقيق اى تطور او تنمية.
·
كما انه لا يوجد حتى اليوم اتفاق عام على
مفهوم موحد للديمقراطية بين كل الفرقاء، والى حين ان نتفق عليه فانه ليس امامنا
سوى الاحتكام للمبادئ والقواعد العامة لتنظيم الحياة السياسية التى توصلت اليها
المجتمعات البشرية حتى اليوم، والتى تكاد تكون موحدة فى كافة الدول وكل الدساتير،
من فصل بين السلطات وانتخابات رئاسية وبرلمانية نزيهة تحت اشراف قضائى .. الخ
·
ولذلك ليس من المقبول انه كلما اراد أحد
الاطراف العصف بخصومه السياسيين ان يقوم باستدعاء مفهومه الخاص عن الديمقراطية
ويطبقه على الاخرين.
·
كما ان توجهات الشعوب تتغير وتتبدل مع
الاحداث والمتغيرات، ففى مصر على سبيل المثال، وعلى امتداد قرن من الزمان، تبدلت المشروعات
والقوى والزعامات الاكثر شعبية بين التيارات الليبرالية والقومية واليسارية والاسلامية
وهكذا.
·
وبالتالى على من يرفض تيارا بعينه، ان يكثف
جهوده فى مواجهته فى اطار من المنافسة السياسية والقواعد الديمقراطية، وأن يناضل
من أجل تغيير موازين القوى وانحيازات واختيارات الشعوب على الارض، بدلا من ان يوجه
سهامه الى فكرة الانتخابات ذاتها، وبدلا من ان يطالب السلطات بالعصف بالمؤسسات
المنتخبة وبالتراجع عن المكاسب الديمقراطية.
·
وعلى من يرى مثالب وسلبيات فى الديمقراطية
على الطريقة الليبرالية، وفى الممارسات السياسية بعد الثورات العربية، أن يسعى الى
تطويرها وتصحيحها من داخلها وليس بهدمها والانقضاض عليها.
·
لقد حرمت شعوبنا لعقود طويلة من أى انتخابات حقيقية
ونزيهة، ولا يعقل ان نقوم بالتفريط فيها بعد أن هرمنا لانتزاع أبسط حقوقنا فيها.
*****
محمد سيف الدولة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق