الصلح مع العدو والانشقاق الوطنى
محمد سيف الدولة
Seif_eldawla@hotmail.com
ان الوحدة الوطنية فى اى مجتمع هى الشرط الاول الضرورى لتقدمه وتطوره ، وبغيابها يتهدد وجود المجتمع ذاته ، فيتجه افراده وجماعاته للاقتتال الداخلى بدلا من التعاون والتلاحم المشترك فى مواجهة مخاطر الخارج ومشاكل التنمية والبناء .
والوحدة بين الجماعة الوطنية لا تعنى التطابق والتماثل فى كل صغيرة وكبيرة ، وانما تعنى انه لا خلاف على المبادىء الاساسية التى يقوم عليها المجتمع ، وما عدا ذلك يتم التعايش معه وتسويته عبر الآليات الديمقراطية ، ان وجدت .
و الوحدة الوطنية لا تقتصر، كما هو شائع ، على وحدة طوائف الامة ، او وحدة المسلمين والاقباط ، فليس الخطر الوحيد الذى يهدد المجتمع هو الصراع الطائفى .
وانما قد يهددها ايضا استئثار قلة من المجتمع بجل ثرواته وهو ما يعرف بالاستغلال الطبقى او الصراع الطبقى .
وقد يهددها استئثار جماعة صغيرة بالحكم والسلطة وتقرير مصير البلاد ، واستبعاد الجميع ، وهو ما يعرف بالاستبداد
ولكن اخطر ما يهدد الوحدة الوطنية هو انقسام المجتمع حول الموقف من عدو خارجى محقق ، مثل الموقف من الاستعمار و الاحتلال ، او من الاغتصاب ، او من مخاطر عدوان قادم ...الخ .
ويشتد الخطر اذا كان الطرف الذى اختار مهادنة العدو او مسالمته هو السلطة ، فبذلك يقع المجتمع فى أزمة كبرى ، فالقوة الوحيدة التى تملك حق حمل السلاح وتجييش الجيوش والامر بالقتال لاتفعل ذلك ولا تريد . اما الشعب الاعزل فيجد نفسه بين شقى الرحى ، فلا هو بقادر على رد المخاطر والمشاركة فى الدفاع عن الوطن ، ولا هو من ناحية أخرى بقادر على رد السلطات وتقويمها ، لان ذلك يضعه تحت طائلة القانون .
هذه هى بالتحديد الحالة التى تعيشها مصرنا الحبيبة الآن ، فالقيادة السياسية بعد حرب 1973 ، اختارات منفردة خيار الصلح مع عدو محقق ، قائم ، متربص ، ومستمر . وسحبت معها كل الدولة وانظمتها فى هذا الاتجاه وهذا الخيار .
وبقى الشعب وكل قواه الوطنية على يقين بان الكيان الصهيونى المسمى باسرائيل هو العدو الاول ، وهو العدو الحالى والسابق والقادم . ولم يقبل ابدا او يبارك او يشارك فى هذه المصالحة الظالمة .
انها حالة مماثلة لما حدث عام 1882 عشية الاحتلال الانجليزى لمصر ، عندما اختار عرابى ورفاقه المقاومة ، واختار الخديو توفيق وحاشيته الهرب الى الاسكندرية والاحتماء بقوات الاحتلال ومباركتها .
ومماثلة لما يحدث الآن فى فلسطين ، من اقتتال داخلى لاول مرة فى التاريخ الحديث ، بين طرف تنازل عن فلسطين وطرف يتمسك بها .
و نفس الصراع موجود وقائم على امتداد الوطن العربى بين الانظمة الرسمية وبين جموع الامة ، بدرجة او بأخرى .
وهو ايضا مماثل لما حدث فى مناطق كثيرة فى العالم ، اشهرها فرنسا فى الحرب العالمية الثانية ، حيث انقسم المجتمع الى جماعة فرنسية موالية للاحتلال الالمانى بقيادة الجنرال بيتان وبين مقاومة شعبية بقيادة الجنرال ديجول .
ان هذا الانقسام فى اى مجتمع وبالتحديد فى مصرهو مشكلة المشاكل ، وهو العقبة الاساسية امام اى خطوة الى الامام فى أى مجال من مجالات الحياة . فان لم تحل هذه المشكلة ويتوافق المصريون شعبا وحكومة على من هو عدوهم الرئيسى ، وكيف يمكن مواجهته ، فان الانقسام سيستمر ويتعمق ويتحول ان عاجلا ام آجلا الى صراع يستنفذ حياتنا جيلا وراء جيل ، الى ان يحسم فى النهاية وبالضرورة لصالح الشعب وقواه الوطنية ، تماما كما حدث فى حالة الاحتلال البريطانى لمصر 1882ــ 1956
ان الحالة التى نتحدث عنها ونعيش فيها الآن هى اخطر بكثير من الحالة التى تلت 1967 ، فوقتها توحد الجميع فى مواجهة العدو الى ان حققنا العبور فى 1973 ، كان الصراع وقتها مصرى صهيونى ، اما الآن فهو مصرى مصرى .
و لهذا الانقسام الوطنى آثارا خطيرة :
اولها واخطرها هو سقوط شرعية السلطة عند الناس .
فلا شك ان افضل المجتمعات هى تلك التى تتوج فيها الشرعية الوطنية والتاريخية بالشرعية القانونية ووتتوحد معها . وعلى سبيل المثال اكتسب الوفد شرعيته من ثورة 1919 ، و جاءت شرعية ثورة يوليو من تاميم القناة والعدوان الثلاثى ، واهتزت شرعيتها فى عام 1967 ، واستعادتها كاملة فى حرب اكتوبر ، لتهتز مرة اخرى بعد الصلح مع العدو فى كامب ديفيد .
ان التزام الناس الحالى بالشرعية مصدره الخوف من سيف القانون ، وليس مصدره المبايعة الشعبية للسلطة . والخوف كما تعلمون لا يدوم .
وسقوط الشرعية الوطنية عن السلطة الحاكمة ، يغرى الكثيرين بالبحث عن شرعيات أخرى بديلة ، فتتعدد الشرعيات والولاءات فى المجتمع الواحد وينفرط العقد .
و تسعى كل الاطراف ، القوية والضعيفة ، الطيبة والشريرة الى استقطاع ما تستطيعه من الوطن المشترك لصالح مشروعاتها واجنداتها الخاصة . وتتصارع الاجندات .
ومن آثار الصلح مع العدو ايضا ، لجوء السلطات الى حصار القوى الوطنية التى لا تقبل المشاركة فى نظام المصالحة ، ومنعها من المشاركة فى العملية السياسية ، بل وتاميم العمل العام كله ، وتفصيل نظام سياسى من حكومة ومعارضة على مقاس الصلح مع العدو .
و يتهدد الاستقرار لغياب القبول الوطنى ، فتنشط الاجهزة الامنية وتتضخم ، ويحل الامن والاكراه محل الحرية والحوار .
وتستبدل السلطات القوى الوطنية ، بالقوى صاحبة المصلحة فى الصلح مع العدو بحكم التجارة والبيزنس والدولار . انهم اصحاب راس المال ، وراس المال كما تعلمون جميعا ليس له وطن ، هكذا يتفاخر الراسماليون كل صباح . فان كان المكسب والربح فى الشغل مع اسرائيل او حتى مع الشيطان ، فعلى الرحب والسعة .
وتكف السلطات من هذا النوع ، وبالتدريج عن الاهتمام بمشاكل الناس البسيطة ، لانها تعلم انهم فى الحساب الختامى ، فى الجبهة الأخرى ، مع المشروع الوطنى ، فهم اصحاب الارض والوطن . فتتدهور حياة المواطنين ويفقدون ابسط الحقوق فى السكن والتعليم والعلاج والعمل ، وتنحط دخولهم ، ويدخلون فى دوامات جهنمية تخطف منهم حياتهم سعيا وراء الرزق ولقمة العيش ، وينشغلون الى حين عن الاهتمام بالشأن الوطنى .
وسرعان ما تكتشف السلطات بعد ان فقدت شرعيتها فى الداخل ، ان عليها ان تدعم شرعيتها فى الخارج ، فتتورط اكثر واكثر ، كل يوم مع معسكر الاعداء وحلفائهم .
ويغرى كل ذلك العدو او الاعداء الخارجيين المتربصين باختراق هذا المجتمع المتصارع المفتت ، لشراء الانصار والتابعين واستقطاب العملاء والموالين ، عبر المعونات والتمويلات والمصالح .
و فى هذه الاجواء ينشط اللصوص والانتهازيون ، وتكون لهم الغلبة ، فان كان الصلح مع العدو مشروعا ، فكل شيىء مباح حتى الجريمة . فتسود السرقة والنصب والاحتيال .
ويتقدم المنافقون الصفوف ، فهذا زمنهم ، فهم مطلوبين دائما من الانظمة منزوعة الشرعية ، فحرفتهم الوحيدة هى تبرير المواقف وتزييف الحقائق والدفاع عن السلطان ظالما كان او مظلوما .
و ينسحب العلماء والشيوخ والناس المحترمون ، بعيدا عن الاجواء الفاسدة ، يراقبون عن بعد فى حزن و حسرة و غضب . فتخسرهم الامة .
* * *
هذا ما تيسر الحديث عنه اليوم فى هذه الشئون ، والى لقاء قادم باذن الله
* * *
القاهرة فى 23 ابريل 2009