بحث فى المدونة

الأحد، 9 يناير 2011

السودان من التعريب إلى التفتيت

محمد سيف الدولة







السودان شعبا وأرضا جزء لا يتجزأ من الأمة العربية .

وهى الأمة التى نضجت و تكونت منذ الفتح الاسلامى وبفضله .

وحملت راية الإسلام وحضارته الى كل بقاع الأرض .

* * *

والأمة العربية مثلها مثل أي أمة فى العالم تكونت وتشكلت عبر عمليات تفاعل وصراعات تاريخية طويلة ، وكثيرة ، ومركبة .

انتهت بذوبان وانصهار كل الجماعات والشعوب والقبائل الموجودة على هذه الأرض فى نسيج شعب واحد يتكلم لغة واحدة وله حضارة واحدة وتدين الأغلبية منه بدين واحد ، واهم من كل ذلك انه يعيش ويستقر على الأرض العربية الواحدة، فيختص بها ويمتلكها الى الأبد دونا عن غيره من باقى أمم و شعوب وجماعات الأرض الأخرى .

مثله فى ذلك مثل الهند والصين وتركيا وإيران واليونان وايطاليا وانجلترا وفرنسا وألمانيا وغيرهم الكثير .

* * *

و عملية تَكّون وتَشّكل الأمم هى عملية طويلة تحتاج الى قرون طويلة حتى تكتمل ، فهى لا تتم فى لحظة واحدة ، ولا تحدث فيها عملية الذوبان والانصهار للجماعات المختلفة فى ذات الوقت و إنما على مراحل .

فالمناطق الحضرية الأكثر كثافة ، هى الأسرع فى الانصهار والاندماج والذوبان فى الشعب الجديد الوليد ، على عكس المناطق الصحراوية التى تسود فيها العلاقات القبلية والعشائرية .

و مناطق القلب أيضا أسرع من الأطراف ، التى عادة ما تتأخر درجة ذوبانها وانصهارها فى الأمة الوليدة بحكم انها مناطق تماس مع أمم أو جماعات أو قبائل أخرى ، يتأرجح فيها الشعور بالانتماء بين هذه الأمة أو تلك أو بين الاستقلال عنهما معا .

وهى الحالات التى قد نراها فى وطننا العربي فى أكراد العراق أو جنوب السودان او البعض من بربر المغرب .

و فى عصور العدل والاستقرار والرخاء والانتصار، عادة ما تنجح الأمم الوليدة القوية ، فى حسم حالة التردد والتذبذب والتأرجح لدى هذه الجماعات ، التى تقبل الاندماج راضية مرضية ، لتصبح بعد فترة وجيزة جزء لا يتجزأ من هذه الأمة .

* * *

وفى حالتنا ، كان الاستعمار الغربى هو السبب الرئيسى وراء تعويق وتأخر ونضوج تكويننا القومى .

فلقد أدى الاستعمار الطويل للوطن العربى الذى بدأ منذ أكثر منذ مائتي عاما الى تأخر عملية الاندماج والانصهار والذوبان .

بل انه حال دون إتمامها عمدا ومع سبق الإصرار والترصد.

فَفَرّق وجَزّأ الوطن الواحد ، حتى يتسنى له اقتسامه كغنائم حرب قبل وبعد الحرب العالمية الأولى .

ومن يومها لم يتسنى للأمة العربية الواحدة أن تستكمل عملية استيعاب ودمج أطرافها المبعثرة هنا وهناك .

خاصة وأن امتنا المغلوبة على أمرها ، لم تنجح منذ زمن بعيد فى ترجمة وحدتها القومية فى دولة واحدة تكون هى الممثل الشرعى والوحيد للشعب العربى وصاحبة السيادة الوحيدة على أرضه من المحيط الى الخليج .

بل قام زبانية الاستعمار الغربى ، بتصنيع حزمة ممسوخة من دول ودويلات ، أقطعوا كل منها جزءا من ارض الوطن الواحد ، حجبوه وحظروه على باقى الشعب الواحد صاحب الأرض جميعا . ووضعوا على رأس كل دولة نظاما يحمى التجزئة والتقسيم باسم السيادة الوطنية القطرية .

وهى دول أثبتت فشلها على امتداد قرن كامل .

فمن استقل منها ، عجز عن الحفاظ على استقلاله وعاد الى حظيرة التبعية .

والفقير منها عجز عن تلبية وإشباع الاحتياجات الرئيسية لمواطنيه .

والغنى منها عجز عن الخروج من أحضان الغرب على امتداد أكثر من 200 عام .

والأسوأ من كل ذلك عجزها جميعا عن الدفاع عن ميراثها من أراضى الوطن المشترك .

فأضاعت فلسطين ، وتركت العراق للأمريكان ، والآن تنتزع منها أطراف الأمة فى جنوب السودان و العراق .

* * *

لكل ذلك فان كل هذه الدول قد فقدت احترامها و شرعيتها ومشروعيتها لدى المواطنين العرب فى كل مكان .

* * *

واذا كان هذا هو حال غالبية الشعب العربى تجاه دوله وأنظمته العربية .

فما بالنا بموقف سكان الأطراف الذين لا يزالوا يتذبذون فى خيارات الهوية والانتماء .

من الطبيعى ان ينزعوا جميعا الى الانفصال ، ان وجدوا اليه سبيلا .

* * *

ولكن لو كان قد كتب لأمتنا أن تنجو من العدوان الاستعماري القديم ، وان تحافظ على وحدتها ، وان تترجمها فى دولة عربية واحدة قوية مثل الصين مثلا ، لكانت الآن واحدة من القوى العالمية الكبرى ، ولكان الجميع يعملون لها ألف حساب ، ولكانت جميع الأطراف فى جنوب السودان والعراق والمغرب تتسابق لتلتحق بدون قيد ولا شرط بهذه الأمة القوية .

على ذات النهج الذي يحدث الآن فى أوروبا ، حيث يتسابق الجميع للالتحاق والانضمام للاتحاد الاوروبى ، الذى يتمنع ويتشرط .

لو كان ذلك كذلك لاختلف كل شىء عما يجرى الآن .

* * *

كما ان للسودان على وجه التحديد ظروفا خاصة ، أهمها هو تأخر الفتح العربى الاسلامى الفعلى له إلى بداية القرن السادس عشر ، أى بعد ثمانية قرون من فتح معظم الأقطار العربية .

وكان ذلك بسبب اتجاه الفتوحات غربا ، أو بسبب الصراعات الداخلية داخل الأمة ، و بسبب الحروب الصليبية التى أخرتنا قرنين من الزمان ، ثم التهديدات الخارجية المستمرة التى لم تتوقف لحظة .

فكان دخول السودان الى العالم العربى الاسلامى فى عصر الانحدار العربى ، عصر الخروج من الأندلس .

أما مصر على سبيل المقارنة فلقد أسلمت وتعربت فى اقوي عصور النهضة العربية الإسلامية وعاصرتها منذ بداياتها الأولى وشاركت فى صنع أحداثها وقادتها قى معاركها الكبرى .

* * *

ويا ليت الأمر توقف عند هذا الحد :

فحتى بعد أن قطع السودان خلال أربعة قرون 1500ـ 1900 مشوارا كبيرا فى رحلة الاندماج العربى الاسلامى بدءا بمملكة الفونج (السلطنة الزرقاء) 1503 ـ 1821 ثم مرحلة الحكم المصرى العثمانى 1821ـ 1885 ثم الدولة المهدية 1885ـ 1898 .

تدخل الغرب وأوقف المسيرة .

فكما حدث مع محمد على الذى تحالفوا عليه وأجهضوا دولته عام 1840 .

حدث مع السودان عام 1898، حين تحالف الانجليز والفرنسيون على إنهاء الدولة الفتية الوليدة (المهدية) التى حكمت معظم أراضى السودان لمدة 13 عاما متصلة وحققت انتصارات عسكرية مذهلة على الجيشين الانجليزي والمصرى مجتمعين .

ولو كانت قد تركت لتواصل مشروعها ، لأصبحت دولة يعتد بها ، أكثر تطورا وقوة وعافية بكثير من السودان الحالى .

وانما ما حدث هو انهم قضوا عليها واحتلوا السودان نصف قرن ، وزرعوا بذور الانفصال فى الجنوب ، وحظروا أى تواصل عربى أو اسلامى معه .

وعندما أعطوا السودان استقلاله عام 1955 ، وجد نفسه يواجه منفردا أكوام من المشاكل والصراعات الداخلية والخارجية والحروب الأهلية والانقلاب تلو الاخر ، و أخيرا التدخل الامريكى والصهيونى ، فعجز أمامها . و انهار عالمه وحدث ما حدث والبقية تأتى .

* * *

وفى ختام هذا الحديث يجب الـتأكيد على انه :

• اذا كان جنوب السودان يشغل حوالى ربع مساحة السودان ، فانه لا يشغل سوى 4 % فقط من مساحة الوطن العربي .

• و اذا كان سكانه يمثلون حوالى 15% من جملة الشعب السودانى ، فانهم يشكلون2% فقط من جملة تعداد الشعب العربى .

• ولذا فلا يجوز لهم أبدا ان ينفردوا وحدهم بتقرير مصير أرضنا ووطننا المشترك

• فهم جزء لا يتجزأ من أمتنا العربية ، جزء تأخرنا فى طمأنته واستيعابه ودمجه لكل الأسباب التى تناولناها عاليه .

• وهو الآن ينتزع منا قصرا وإكراها .

• فعسى ان تكون هذه النكبة الجديدة نبراسا لنا جميعا فى التفكر والتدبر فى كيفية استرداد وحدة امتنا العريقة حاملة راية الحضارة العربية والاسلامية .

• كيف نستردها من كل الذين اغتصبوها من خارجها ومن داخلها ؟

* * * * *

القاهرة فى 6 يناير 2011






ليست هناك تعليقات: