لا أتصور ان هناك من يمكن ان يفكر
او يشارك اليوم فى احياء الذكرى المئوية لثورة 1919، بدون ان يقارن بوعي أو بدون وعى بينها
وبين ثورة يناير التى لم تجف دماء شهدائها بعد، خاصة وان كلتاهما قد تعرضتا
للهزيمة والاجهاض على ايدى قوى الثورة المضادة، لعلنا نتمكن من استخلاص سنن
ونواميس عامة للنجاح والفشل فى الثورات الشعبية المصرية.
وفيما يلى بعض العناصر التى قد يكون من المفيد تسجيل
انطباعات اولية أو لمحات سريعة عنها فيما يخص اهم الفروق بين الثورتين:
1) أسباب الثورة.
2) أهداف الثورة.
3) الوضع الدولى
وتأثيره.
4) شرارة الثورة.
5) القيادة
والتنظيم.
6) زعيم الثورة.
7) الوحدة
والانقسام.
8) المشاركة
الشعبية.
9) المجتمع
المدنى.
10)
الشهداء والمحاكمات.
11)
انكار الثورة.
12)
نتائج الثورة وآثارها.
***
1) أسباب
الثورة
ثار الناس فى 1919 ضد الاحتلال والقصر
والاستبداد والنهب والاستغلال والفقر والافقار والفساد والافساد، وفى 2011 كان فى
مصر ذات الظروف مع اختلاف الدرجة، فيما عدا الاحتلال الذى حلت محله التبعية
للولايات المتحدة الامريكية والخوف من اسرائيل.
***
2) أهداف
الثورة
فى 1919 كان الهدف
واضحا وصحيحا ومجمعا عليه وهو الاستقلال.
وفى 2011 تعددت الاهداف واختلفت حسب كل فصيل
من فصائل الثورة. فلم يتفق الناس الا على رحيل مبارك، اما ما بعد ذلك فكان محل
اختلاف شديد. وحتى شعارات الثورة حول العيش والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية،
فلم تكن اكثر من كلمات عامة مرسلة بدون امتلاك اى تصور واضح حول سبل وخطط وأدوات
وآليات تنفيذها.
ورغم ان نظام مبارك كان كما تقدم نظاما تابعا
وطبقيا ومستغلا ومفقرا ومستبدا وفاسدا، الا ان الثورة قامت فى مواجهة جزئية واحدة
من سوءاته وهى قضايا الحريات والاصلاحات السياسية والدستورية، وقررت باجماع الاراء
تجنب الاقتراب من اصل الخلل المتمثل فى التبعية للامريكان وكامب ديفيد واقتصاد
صندوق النقد وسيطرة رؤوس الاموال.
***
3) الوضع
الدولى وتأثيره
فى 1919 كان للوضع الدولى تاثيرا كبيرا على
مجرى الاحداث وتطوراتها، بدءا باعلان الهدنة ومؤتمر الصلح ومبادئ الرئيس الامريكى
ويلسون ثم تراجعه عنها واعترافه ومؤتمر الصلح بالحماية البريطانية على مصر.
وفى 2011 كان للوضع الدولى ايضا تاثيرا
كبيرا، بدءا بالحالة التى سادت فى المنطقة بعد الغزو الامريكى للعراق والادعاءات
الامريكية الزائفة بالرغبة فى دقرطة الدول العربية، وما اتاحه ذلك من توسيع للهامش
الديمقراطى الذى منحه مبارك مكرها للمعارضة المصرية، ثم زيارة اوباما وخطابه فى
جامعة القاهرة، ثم انفجار الثورة فى تونس وهروب بن على.
وايضا كان للخارج الدولى والاقليمى الدور الاكبر
فى مجريات الأمور حيث تم اجهاض الثورة والقضاء عليها تحت قيادة وبدعم من حلف
امريكي اسرائيلي سعودي خليجي.
الى هذه الدرجة كان ولا يزال للوضع الدولى هذا
التاثير الفارق على مجريات ما يدور فى مصر.
***
4) شرارة
الثورة
اما عن شرارة الثورة التى كان يبحث عنها سعد
زغلول وينتظرها حين قال "لابد من قارعة"، قاصدا انه لابد ان يحدث حدثا
كبيرا يحرك الموقف ويقلب موازين القوى ويكره الانجليز على الاستجابة لمطالب
المصريين فى الاستقلال، فكان اعتقال سعد زغلول ورفاقه يوم 8/3/1919 هو هذه القارعة
التى كان ينتظرها "سعد" والتى ادت بالفعل الى انفجار الثورة فى اليوم
التالى مباشرة فى 9/3/1919.
اما فى ثورة يناير فلقد كانت هناك سلسلة من "القوارع"
ان جاز التعبير، العامل الرئيسى بطبيعة الحال كان هو تأبيد حكم عائلة مبارك ومشروع
التوريث، ثم جاءت حادثة خالد سعيد لتزيد المشهد اشتعالا، وكان لتزوير انتخابات
2010 بهذه الطريقة الفجة والصادمة، الضربة ما قبل القاضية لمبارك، والتى اكملها
انفجار الثورة فى تونس ثم دعوة الشباب الى مظاهرات 25 يناير.
***
5) القيادة
والتنظيم
فى 1919 كان هناك قيادة موحدة للثورة وتنظيما
واحدا لها؛ علنيا وسريا.
اما ثورة 2011 فلقد افتقدت الى وحدة القيادة
وتفرقت الى عشرات الاحزاب والتنظيمات والجماعات والائتلافات بالاضافة الى مئات
الشخصيات العامة التى كان لكل منها مشروعه واهدافه الخاصة.
***
6) زعيم
الثورة
كان سعد زغلول هو زعيم ثورة 1919 المجمع عليه بلا منازع. اما فى 2011 فلم
ينجح احد فى ان ينال هذه المكانة وهذه الثقة وهذا الاجماع. حتى محاولة جمع
التوقيعات لمحمد البرادعى ما لبثت ان تعثرت. وحين رحل مبارك ودخلنا مرحلة
الاستحقاقات الانتخابية، زاد الانقسام حدة كما تقدم، وانشقت القوى السياسية الى
نصفين او جناحين؛ مدنيين واسلاميين. وكان احد اسباب ما حدث لاحقا فى 30 يونيو 2013
هو عدم قبول التيار المدنى ان يكون هناك رئيسا اسلاميا. واتصور انه لو كان قد نجح
رئيس مدني، لنال من التيار الاسلامى ذات الرفض والمواجهة التى لقيها محمد مرسى من
جبهة الانقاذ.
اننا فى حقيقة الامر امام ظاهرة "الزعيم المستحيل"؛ فيستحيل ان تتفق
قوى الثورة او قوى المعارضة على زعيما واحدا فى المنظور القريب. وهذه الحالة لا
تقتصر على مصر، بل تمتد الى عديد من الاقطار العربية الاخرى كتونس ولبنان وغيرهما.
وهى ظاهرة وثيقة الصلة بحالة الانقسام الفكرى والايديولوجى التى ضربت الامة منذ
عقود طويلة ماضية كما تقدم.
وهى الاشكالية التى يكمن مخرجها الوحيد فى التخلى والابتعاد عن ظاهرة
الزعيم الفرد، واستبدالها بالقيادة الجماعية والعمل الجبهوى والمؤسسى.
***
7) الوحدة
والانقسام
فى 1919 توحد الجميع على اهداف الثورة، ولم
يجرؤ أحد على الخروج عن حالة الاجماع فى مرحلتها الاولى على الأقل، وحتى حين حدث
الانقسام فى مرحلة التفاوض فانه تم فى صفوف شريحة صغيرة من نخبة ساسة ووزراء
السلطة، بتحريض من الانجليز ومن القصر، وبقى جسد الشعب المصرى موحدا يستعصى على
الشق.
اما فى 2011 فلم تتوحد قوى الثورة سوى فى الـ
18 يوم الاولى، ثم بدأ الانقسام وتفجر مع استفتاء 19 مارس. وفى الانتخابات
البرلمانية انقسم فرقاء الثورة الى عشرات القوائم بدلا من المشاركة بقائمة ثورية
واحدة، وكانت الطامة الكبرى فى الانتخابات الرئاسية حيث نافست قوى الثورة بعضها
البعض بعديد من المرشحين حتى كاد مرشح الدولة ان يفوز بها. وكان هذا كاشفا عن
الخلل الرئيسى فى جسد الثورة الذي سيتم اختراقها والقضاء عليها فيما بعد من خلاله.
قارنوا ذلك بانتخابات 1924 التى دخلتها كل الاحزاب المصرية بائتلاف وطنى جامع
وبقائمة انتخابية موحدة شملت كل الاحزاب.
لقد وصل الانقسام بنا اليوم الى حالة من الكراهية والتخوين والتكفير. وكشفت
لنا السنوات الماضية كيف ان بيننا انقساما عميقا وقديما تعود جذوره الى عشرات
العقود الماضية، وهو عرضة للاستفحال والتدمير ما لم يتم احتوائه والتصدى لاسبابه.
***
8) المشاركة
الشعبية
فى 1919 اشتبكت الجماهير وشاركت فى احداث
الثورة ومعاركها منذ الايام الاولى واستمرت فى حالة استنفار وتعبئة على امتداد
الست سنوات من 1918 الى 1924، وقدمت ملاحم نضالية فى التظاهر والتضامن والاضراب
والعصيان والمقاطعة. والرائع انه فعلت كل ذلك بدون فيسبوك ولا اى وسائل للتواصل
الاجتماعى المتوفرة فى عصرنا اليوم.
اما فى 2011 فلم تشارك الجماهير سوى فى الـ
18 يوما الاولى فى اعتصام ميدان التحرير واخواته، بل ان عديد منها لم يتجرأ على
النزول الى التحرير الا بعد أن اطمأن الى ان الثوار قد انتصروا ونجحوا فى تأمين
اعتصاماتهم ضد محاولات قوات الامن وبلطجيتهم و"جمالهم" اقتحام الاعتصام وفضه.
وكانت مشاركة كثير من اطياف الشعب فى الايام الاخيرة فى ميدان التحرير، تتم من باب
الفضول او الزيارة أو السياحة للميدان "للفرجة" على هذ الحدث الاستثنائى.
وبعد رحيل مبارك وانفضاض جموع المعتصمين
وعودتهم الى منازلهم، توقفت تقريبا حركة تشكيل اللجان الشعبية، وتم استبعاد
الجماهير تماما من المشاركة فى الثورة الا فى الاستحقاقات التصويتية والانتخابية. وانفردت
النخب بالمشهد وهرولت غالبيتها من اسلاميين ومدنيين للتسابق على جمع الغنائم
البرلمانية والسياسية والاعلامية، وعادت جموع الشعب المصرى مرة اخرى لتراقب عن بعد
من مقاعد المتفرجين، وتنتقل بين القنوات الفضائية لتبحث عن اى مكاسب اقتصادية او
معيشية من وراء الثورة فلا تجد. ولذلك حين تآمرت قوى الثورة المضادة على ثورة
يناير وانقضت عليها لتجهضها، لم يجد الثوار من يدافع عنهم من بين غالبية الناس
الذين نجحت روايات النظام الزائفة عن "الثورة والفوضى" فى اختراق
قناعاتهم.
***
9) المجتمع
المدنى
كان المجتمع المدنى مجتمعا قويا ابان ثورة 1919، وربما تكون الثورة الوحيدة
فى كل ثورات مصر التى لم يشارك فيها الجيش المصرى على حد قول الاستاذ طارق البشرى بسبب
وجوده حينذاك فى السودان. وهو على العكس تماما مما حدث فى ثورة عرابى 1881 وثورة
1952 على سبيل المثال.
اما فى 2011 فلقد مهد لها مجتمعا مدنيا قويا نمى وقويت شوكته فى السنوات
السبع قبل قيام الثورة (2004-2011)، ولكنه لم يكن يملك من القوة ما يكفى لاستلام
السلطة بعد ان نجح فى تفجيرها، فسلمها الى المجلس العسكرى، الذى سرعان ما قرر
اعادة انتاج النظام القديم والقضاء على الثورة وعلى الحياة السياسية والمجتمع
المدنى.
ويمكن التعرف على حقيقة الموقف الرسمى الحالى من القوى السياسية والمدنية
من خلال مراجعة ما قاله عبد الفتاح السيسى عن المدنيين فى الحديث الذى ادلى به الى
ياسر رزق عام 2013، حين قال ما معناه: ان المدنيين ايام الثورة، كادوا ان يقضوا
على الدولة بجهلهم وقلة خبرتهم على عكس القوات المسلحة التى تدرس قراراتها جيدا
ولذلك ستظل فى المشهد 15 عاما قادمة على الاقل، وانه خلال هذه المدة على المدنيين
ان يتدربوا ويتعلموا حتى يكونوا قادرين على المشاركة فى حكم البلاد فى يوم من
الايام.
***
10)
الشهداء والمحاكمات
فى 1919 قدر الاستاذ عبد الرحمن الرافعى
اعداد الشهداء بحوالى 3000 شهيد غير المصابين، اما فى 2011 فلا يزال "العداد شغال."
وفى 1919 انعقدت محاكمات الثورة منذ الايام
الاولى وصدرت فيها احكام شديدة القسوة كالاعدام والسجن المؤبد والمشدد التى تم
تنفيذ بعضها قبل ان يتولى سعد زغلول الوزارة ويقوم بالافراج والعفو عن كثير من المعتقلين.
اما 2011 فلا تزال محاكمة كل من تجرأ على
المشاركة فى ثورة يناير دائرة، لا فرق فى ذلك بين اسلاميين ومدنيين.
***
11)
انكار الثورة
ومن المفارقات الملفتة كيف ان الانجليز بغالبية ساستهم وكتابهم ومؤرخيهم
رفضوا على الدوام الاعتراف بالثورة المصرية وانبروا فى الهجوم عليها وتشويهها
ووصفها بشتى الاوصاف الا كونها ثورة؛ فهى تمردا او مؤامرة او تخريب او خروج على
النظام والقانون ..الخ.
وكم هو قريب الشبه بما يحدث اليوم من جماعة الثورة المضادة حين يصفون ثورة
يناير بالفوضى وبالكارثة التى كادت ان تقضى على الدولة المصرية.
***
12)
نتائج الثورة وآثارها
أما عن النتائج، فلقد تعرضت كلتا الثورتين
للهزيمة على ايدى قوى الثورة المضادة من داخل النظام القديم وشبكات المصالح
المرتبطة به، وما تلى ذلك من عواقب معروفة ومحفوظة تطال اى ثورة مهزومة، فلقد فتحت
السجون وعقدت المحاكمات وصدرت احكام اعدام بالجملة وبالسجن المؤبد والمشدد وتم مد الاحكام
العرفية وحظر التظاهر ومنع الاجتماع وحل البرلمان والرقابة على الصحف وتكميم
للافواه ...الخ.
أما عن الآثار، فان ثورة 1919 رغم هزيمتها
وعجزها عن تحقيق اهدافها، قد استمرت آثارها وامتدت الى عقود طويلة تالية، وصلت الى
ثورة 1952 وما بعدها.
فهل ستستمر آثار ثورة يناير؟ وهل بالامكان استعادتها واسترداد مكتسباتها فى
وقت قريب؟ أم ان القضاء عليها كان قضاء مبرما؟
***
ان كل الثورات قد تنهزم وقد تفشل، ولكن ذلك لا يمثل على
اى وجه نهاية العالم، فالجيل الذى عاصر ثورة 1919 وشهد بأم عينيه اغتيالها واجهاض
مكتسباتها وبقاء الانجليز فى مصر، لم يكن يخطر بباله حينذاك بانهم سيغادرونها
مهزومين ومجبرين عام 1956وهكذا ...
فلا محل لليأس.
*****
محمد سيف الدولة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق