ونحن فى رحاب الذكرى المئوية لثورة 1919 بالتزامن مع الذكرى الاربعين
لمعاهدة السلام المصرية الاسرائيلية، نتساءل:
لماذا تجرأ المصريون على الغاء معاهدة 1936، بينما لم
يجرؤ احد من حكام مصر على امتداد 40 عاما على الاقتراب من اتفاقيات كامب ديفيد بالإلغاء
او بالتعديل على اضعف الايمان، للتحرر من القيود التى فُرِضَت علينا فى سيناء؟
لطالما راودنى هذا السؤال واصابنى بالحيرة خاصة وان مصر حين قررت الغاء
المعاهدة فى 1951 كانت لا تزال تعيش فى ظل الاحتلال، وكان ما يزيد عن ثمانين ألف
من القوات البريطانية تقبع فى مدن القناة، بينما
مصر اليوم هى دولة مستقلة (من الناحية النظرية على الاقل)، ومن المفترض ان تكون
اكثر قدرة على اتخاذ قرارات وانتهاج سياسات من هذا النوع.
ان هذه المقارنة أو هذا التساؤل هى مسائل مشروعة ومنطقية، لعديد من الاسباب
اهمها ان هناك وجه شبه كبير بين المعاهدتين:
فكلتاهما "اتفاقية جلاء" رغم الاسم الزائف والمضلل الذى يطلقونه على
كامب ديفيد بانها اتفاقية سلام، ففى الاولى كان القوات الانجليزية تحتل مصر وفى
الثانية كانت القوات الاسرائيلية تحتل سيناء.
الا أن بينهما فارقا أساسيا وهو ان معاهدة 1936 كانت معاهدة ثنائية بين مصر وانجلترا، بينما اتفاقيات كامب
ديفيد فى حقيقتها هى اتفاقية ثلاثية بين مصر
واسرائيل والولايات المتحدة الامريكية رغم ان الشائع انها معاهدة بين مصر و(اسرائيل)
فقط؛
فالولايات المتحدة حاضرة ومؤثرة وفاعلة فى المعاهدة وفى الميدان، اضعاف
مضاعفة تأثير اى من طرفيها الاخرين.
·
فهى اولا
صاحبة السيطرة والهيمنة والادارة من الناحية الواقعية والرسمية على القوات
الاجنبية التى تراقب قواتنا فى سيناء والتى تسمى بـ "قوات متعددة الجنسية
والمراقبين ـ MFO"
·
وثانيا هى التى تصدت للقيام بدور اجبار مصر
واكراهها على الالتزام بترتيبات كامب ديفيد الامنية والعسكرية، بموجب مذكرة
التفاهم الامريكية الاسرائيلية الموقعة فى 25/3/1979، والتى تلتزم فيها الولايات المتحدة بالتدخل بنفسها عسكريا ضد مصر فيما لو قامت
بانتهاك المعاهدة عسكريا او دبلوماسيا او اقتصاديا.
·
وهى قبل ذلك وبعده، الدولة العظمى التى سقطت مصر منذ عام 1974 فى
مستنقع التبعية لها بموجب نظرية السادات وخلفائه بان 99 % من اوراق اللعبة فى ايدى
الامريكان.
·
ناهيك على انه لولا المواقف الامريكية بعد 1967
التى رفضت انسحاب القوات الاسرائيلية من سيناء، ولولا دخولها الحرب فى 1973 الى
جوار (اسرائيل) بالجسر الجوى وبطائرات التجسس التى كشفت منطقة الفراغ التى ادت الى
ثغرة الدفرسوار...الخ، لما تم كسر الارادة المصرية واخضاع القيادة السياسية
واجبارها على توقيع اتفاقيات كامب ديفيد التى لا تعدو ان تكون اتفاقية سلام
بالاكراه.
***
وحيث انها اتفاقية ثلاثية كما تقدم، فاننا حين نقوم بالمقارنة بين
بنود ونصوص معاهدة 1936 ومثيلاتها فى كامب ديفيد، سنكتشف ان التنازلات التى تقدمها مصر اليوم، يتم توزيعها على كل
من الامريكيين والاسرائيليين كل حسب مصالحه وليس على الانجليز فقط كما كان الحال
فى معاهدة 1936:
فالمادة (الثامنة) فى معاهدة 1936 وملحقها
"شرعنت" وجود قوات الاحتلال فى مصر وفرضت على مصر التزامات لوجستية
لصالح الانجليز، وقيدت حقوق مصر السيادية على اراضيها فتم حظر تحليق الطيران
المصرى، على سبيل المثال، فوق المناطق التى تتمركز فيها القوات الانجليزية.
اما المادة (الرابعة) فى معاهدة السلام المصرية
الاسرائيلية وملحقها الامنى فلقد قيدت قوات مصر وتسليحها فى ثلثى سيناء
بعرض يقارب 150 كم، بينما لم تقيده فى (اسرائيل) الا بعرض 3 كم. ووضعت قوات
المراقبة الاجنبية فى سيناء فقط، اما فى (اسرائيل) فوضعت مراقبين مدنيين فقط.
وحظرت الطيران العسكرى والمطارات والموانى العسكرية المصرية فى ثلثى سيناء الا
باذن (اسرائيل).
***
ومعاهدة 1936 الزمت مصر بتقديم التسهيلات والخدمات اللوجستية
كما تقدم للقوات البريطانية فى منطقة القناة وعديد من الطرق وخطوط السكة الحديد.
بينما اعطت مصر للولايات المتحدة منذ السبعينات تسهيلات وخدمات لوجستية عسكرية فى قناة
السويس وفى مجالها الجوى، يقول عنها الامريكان انها كان لها بالغ الاثر والفائدة
فى غزو العراق.
***
والمادة الرابعة فى 1936 تؤكد على علاقات تحالف
(احتلال) بين مصر وبريطانيا، والمادة (السابعة) تزيد من وطأة هذا الاحتلال واجراءاته
فى وقت الحرب.
وهو وضع قريب الشبه مع فارق الشكل والعصر والتفاصيل، مع علاقات التبعية التى تربط مصر اليوم بالولايات المتحدة،
والتى تجبرها على الانخراط فى كل الترتيبات الامنية او التحالفات الاقليمية فى
المنطقة كما تمنعها من المشاركة فى اى احلاف او تجمعات مناهضة للولايات المتحدة او
مستقلة عنها.
***
المادة الخامسة فى معاهدة 1936 تمنع مصر
صراحة من الدخول فى معاهدات تناقض احكامها التزامات المعاهدة المصرية الانجليزية.
والمادة السادسة من معاهدة السلام المصرية
الاسرائيلية تفرض ذات الحظر والمنع على الارادة المصرية وتنص صراحة على انه
فى حالة وجود اى تناقض بين اى من التزامات مصر الاخرى وبين اتفاقية السلام، فانه
يكون للاخيرة الاولوية، كما قامت بمنع عقد اى اتفاقيات مستقبلية مع اى طراف اخرى
تناقض احكام اتفاقية السلام، فى استهداف واضح لا يخفى على أحد لاتفاقية الدفاع
العربى المشترك على وجه الخصوص، ومصادرة لمجمل العلاقات المصرية العربية فى
المستقبل بصفة عامة، بشكل يطلق يد (اسرائيل) فى العربدة العسكرية والعدوان كيفما
شاءت على اى قطر عربى، بدون لأن يكون من حق مصر اتخاذ اى رد فعل.
***
والغريب انه رغم الفرق بين وضع الاحتلال العسكرى الثقيل عام 1936، وبين وضع
"الاستقلال" اليوم، الا ان فى معاهدة 1936 ميزتين
بارزتين بالمقارنة بالمعاهدة المصرية الاسرائيلية؛ الميزة الاولى هى مدة المعاهدة التى تم النص فى المادة السادسة عشر
على حق الطرفين فى اعادة النظر فى احكامها بعد مرور 20 سنة.
اما فى اتفاقيات كامب ديفيد فالمعاهدة مؤبدة، اذ لم يتم النص على مدة
لنهايتها او لاعادة النظر فيها!
والميزة الثانية فى معاهدة 1936 ما نصت عليه من ان اى خلاف
بين الطرفين بشأنها يتم عرضه على عصبة الامم.
بينما فى المعاهدة المصرية الاسرائيلية تم استبعاد الامم المتحدة تماما من
اى من ترتيبات او اجراءات الاتفاقية، فحتى ما يسمى بقوات حفظ السلام فى سيناء
فانها لا تخضع للامم المتحدة وانما للولايات المتحدة ومديرها سفير بالخارجية
الامريكية. وفيما يتعلق باى خلاف ينشأ بين مصر و(اسرائيل) بخصوص تطبيق بنود
المعاهدة فان المادة السابعة منها تنص على اللجوء الى التفاوض فالتوفيق ثم
التحكيم، وكلها وسائل تشترط موافقة الطرفين، وبالتالى تم تجريد مصر من اتخاذ اى
قرار لا تقبله (اسرائيل).
***
ليس المقصود هنا عقد مقارنة تفصيلية بين المعاهدتين، وانما الهدف بعد هذا
الاستعراض العام والواجب، هو المقارنة بين مصر 1951 التى قامت بالغاء معاهدة 1936،
وبين مصر (1979 ـ 2019) التى تخشى الاقتراب من اتفاقيات كامب ديفيد ولو بالتعديل
لتحرر نفسها من القيود العسكرية المفروضة عليها.
وذلك رغم الاختلال الرهيب فى المراكز وموازين القوى بعد الحرب العالمية
الثانية، عنه اليوم بعد حرب 1973؟
وهى مقارنة لا تقتصر للاسف على السلطات والحكام المصريين، وانما تمتد لتشمل
الفروق بين الحركة الوطنية المصرية التى كانت تتصدى وتتظاهر وتضغط وتطالب بالاجماع
لالغاء المعاهدة مع الانجليز، وبين الحركة الوطنية اليوم التى قبلت وتوافقت
وتعايشت الغالبية العظمى منها بعد اغتيال السادات، الا
من رحم ربى، مع ذل التبعية الامريكية وسجن كامب ديفيد، مقابل هامش ضئيل من
الديمقراطية وفتات قليلة من المشاركة السياسية قد تجود بها السلطة بين الحين
والآخر، وتمنعها فى معظم الاحيان.
***
وفى الختام أرجو الانتباه الى اننا اخترنا مقارنة مصر
اليوم بمصر 1951، ولم نقارنها من باب "الرأفة" بمصر 1956 التى قررت
تأميم قناة السويس والغاء عقد امتياز القناة، وتحمل كل العواقب والتصدى للعدوان
الثلاثى الذى انتهى بانسحاب قوات العدوان، وباندثار الاحتلال البريطانى الى الابد
حاملا معه كل وقواته ومعاهداته وامتيازاته ووقاحاته التى اذاقتنا الذل لستة وسبعين
عاما.
*****
محمد سيف الدولة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق