أخشى أن تكون الدولة المصرية قد ارتضت الاكتفاء
بالدور الذى يفضله لها الامريكان والاسرائيليون ومجتمعهم الدولي وهو ان تقوم بدور
الوساطة بين (اسرائيل) والفلسطينيين بدلا من دور التصدى والريادة والمواجهة.
فهو دورها الأبرز منذ سنوات طويلة، وهو الدور
الأكثر تقديرا وشكرا على الدوام فى تصريحات الرؤساء والمسئولين الأمريكيين.
وهو ما ظهر بجلاء فى حرب الابادة الحالية على
غزة، من الاكتفاء بالوساطة فى صفقة الهدنة وتبادل الأسرى والتفاوض اليومى مع (اسرائيل)
للحصول على موافقتها على ادخال المساعدات وفتح المعبر، فى وقت تحتاج فيه غزة من
مصر وكل العرب الى ما هو أكثر من ذلك بكثير.
ولا يغير من طبيعة هذا الدور ما يصدر بين الحين
والآخر من تصريحات رسمية مصرية عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى، ولا حتى ما
خرج أخيرا من انتقادات عالية النبرة قليلا لما تقوم به (اسرائيل) فى غزة من قتل
وتدمير وتهجير.
فرغم أى تصريحات، فان الدور الرسمى المصرى قد
تم تقليصه واختصاره منذ اتفاقيات كامب ديفيد وعلى الأخص فى السنوات القليلة
الماضية الى دور الوسيط الذى يتم استدعائه مع كل عدوان اسرائيلى جديد وكلما كانت
هناك رغبات امريكية او اسرائيلية فى الضغط على حركات المقاومة.
وهى بطبيعة الحال وساطة غير متوازنة، فإذا
كان فى مقدور مصر الضغط على الفلسطينيين المحاصرين والمحتلين، فان العكس هو الصحيح
فيما يتعلق بإسرائيل، حيث تكون مصر هى الطرف الأضعف الذى يتعرض للضغوط طول الوقت
سواء من الأمريكان أو من (اسرائيل)، بسبب طبيعة علاقات التبعية المتغلغلة منذ
السبعينات، وبسبب أهم وأخطر، هو الاختلال الهائل فى موازين القوى فى سيناء وعلى جانبي
الحدود الدولية الذى تم فرضه علينا منذ 1979 في اتفاقيات كامب ديفيد.
***
فى عام 1978 كتب توفيق الحكيم مقالا فى جريدة
الاهرام يطالب فيه بوقوف مصر على الحياد بين العرب وبين (اسرائيل) مثلما وقفت
سويسرا والنمسا على الحياد فى الحرب العالمية الثانية.
فانفجرت فى وجهه موجات من الردود والمقالات من كبار المفكرين والكتاب عليهم رحمة الله جميعا، من امثال رجاء النقاش
واحمد بهاء الدين ووحيد رأفت وبنت الشاطئ وآخرين، كتابات تدافع عن عروبة مصر وتؤكدها
وتقدم عشرات الأدلة والشواهد والبراهين عليها، وتفكك دعوة الحكيم المريبة وتشكك فى
توقيتها ودوافعها وتستعرض مخاطرها وتبين تهافتها واستحالتها، لتنتهى هذه المناظرة التاريخية بتوجيه
ضربة قاضية لفكرة حياد مصر العربية فى معارك صراع الأمة العربية ضد الكيان
الصهيونى ومشروعه.
***
لا أظن انه كان من الممكن أن يخطر على بال
غالبية الشعب المصري ونخبته الفكرية الراحلة حينذاك، بأن دعوة توفيق الحكيم ستتحول
فى يوم من الأيام لتكون هى الموقف الرسمي للدولة المصرية فى تحد وتناقض وصراع
مستحيل مع شخصية مصر وتكوينها الطبيعي بهويتها العربية ومكانتها التاريخية وموقعها
الجيوسياسى ودورها المركزى.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق