بحث فى المدونة

الاثنين، 15 نوفمبر 2021

(7) انهيار المشروع الصليبيى

 هذه هى الحلقة السابعة من هذه السلسلة، التى نتناول فيها كتاب ماهية الحروب الصليبية للدكتور/ قاسم عبده قاسم الذى رحل عن دنيانا فى الاسابيع الماضية. وكنا قد تناولنا فى الحلقات السابقة الأيدلوجية الصليبية، والظروف التاريخية والدوافع، وخطبة البابا والاستجابة الشعبية، والحملة الاولى واغتصاب القدس، وبدايات الوحدة والمقاومة والتحرير، ومصر وصلاح الدين والحملة الثالثة.

واليوم نتناول الحملات من الرابعة الى السابعة وحملة الاطفال والحملة العجيبة واخيرا قصة التحرير الكامل للارض المغتصبة.

***

الحملة الرابعة 1204 م:

·       بعد صلاح الدين، تفسخت دولته بين الورثة من ابناء البيت الأيوبي، وهو ما جاء نعمة على ما تبقى من الوجود الصليبى فى لبنان وفلسطين، وتمتعت مملكة بيت المقدس الوهمية التى اصبحت عاصمتها عكا بفترة سلام قاربت العشر سنوات.

·       وفى عام 1200 م تولى السلطان العادل الايوبى منصب السلطنة الايوبية فى القاهرة.

·       اما فى اوروبا، فلقد أدرك البابا والغرب ومعهم الصليبيون فى الشرق ان الاستيلاء على مصر هو الخطوة المنطقية والضرورية لتامين وجودهم فى بلاد الشام.

·       لقد بات غزو مصر بكل مواردها، قضية منطقية وضرورة حربية لضمان الاستيلاء على ما استرده صلاح الدين من مملكة بيت المقدس اللاتينية.

·       واخذ البابا انوسنت الثالث 1198/1216 على عاتقه مهمة الدعوة الى حملة صليبية جديدة يكون هدفها مصر.

·       وبالفعل بدات الاستعدادات لتجميع هذه الحملة وتم الاتفاق مع جمهورية البندقية لكي تقوم اساطيلها البحرية بنقل القوات.

·       وفى سنة 1201 م تحركت الجيوش الى البندقية لكي تنقلها السفن الى الشواطئ المصرية.

·       ولكن بدلا من ذلك، انحرفت هذه الحملة، واتجهت عام 1202 م الى حصار القسطنطينية العاصمة المسيحية، بدلا من القاهرة العاصمة الاسلامية.

·       وفى 24 يونيو 1203 رسا الاسطول فى مياه خلقدونية قبالة القسطنطينية.

·       وفى اول مارس 1204 كانوا يرسون دعائم دولة جديدة تحل محل الامبراطورية البيزنطية بموجب معاهدة فصلوها على اهوائهم.

·       وفى 23 ابريل 1204 تم اقتحام المدينة وتركت عرضة للنهب والمذابح الصليبية على مدى ثلاثة ايام مرعبة.

·       وهكذا انتهت الحملة الصليبية الرابعة.

·       ولكن بعض الصليبيين الذين لم يعجبهم انحراف الحملة عن وجهتها الاساسية، قد واصلوا الطريق حتى شواطىء الشام وهناك تعاونوا مع المستوطنين الصليبيين لشن هجوم هزيل ضد مدينة رشيد ومدينة فوة المصريتين وقد ظلوا فى حصارهم خمسة ايام من عام 1204م، ثم انسحبوا.

·       وسرعان ما أدرك الصليبيون فى عكا استحالة قدوم حملة صليبية من الغرب لنجدتهم، فسعى امالريك الثالث ملكهم لعقد هدنة مع السلطان العادل الايوبى الذى رحب بذلك نظرا لازدهار التجارة ومكاسبها فى حالة السلم وبسبب متاعبه الداخلية مع بقية الايوبيين من ناحية اخرى.

·       وبالفعل تم عقد هدنة مدتها ست سنوات فى اواخر 1204.

***

حملة الاطفال 1212 م:

·       كرد فعل شعبى فى اوروبا الغربية على فشل البابوبة وحكام اوروبا فى استرداد مدينة القدس، خرجت حملة من نوع عجيب عرفت بصليبية الاطفال.

·       ففى عام 1212 م ظهر صبى فرنسى فى الثانية عشرة من عمره اسمه ستيفين، ادعى ان العناية الإلهية اختارته لقيادة حملة من الاطفال الابرياء لاسترداد القدس التى فشل الملوك والامراء والبابا فى استردادها بسبب ذنوبهم.

·       ونحج ستيفين بالفعل فى اجتذاب بضعة مئات من اطفال فرنسا وعدد من صغار القساوسة وتوجهوا الى مرسيليا فى انتظار ان ينشق البحر امامهم فى معجزة مثل تلك التى حدثت للنبى موسى عليه السلام، وتكررت نفس الحكاية فى المانيا تحت قيادة صبى اسمه نيقولا، ولكن لم يعلم احد ماذا حدث بعد ذلك لهذه الحملة العجيبة.

***

الحملة الخامسة 1218م:

فى عام 1215م وبسبب ضعف المستوطنات الصليبية وسوء حالها منذ معركة حطين، دعت البابوية وبعض القوى فى غرب اوروبا الى حملة جديدة هدفها مصر للاسباب الاتية:

اولا ـ رغبة المدن التجارية الايطالية الممول الرئيسى للحملة فى السيطرة على تجارة المتوسط وضرب المنافسة المصرية فى عقر دارها بالسيطرة على ميناء دمياط اهم موانئ شرق المتوسط آنذاك.

وثانيا ـ بداية تبللور واستقرار عقيدة سياسية وعسكرية صليبية جديدة مؤداها ان هزيمة مصر او تحييدها على الأقل خير ضمان لبقاء المستوطنات الصليبية.

ثالثا ـ استرداد الشرف العسكرى الذى تمرغ بعد هزيمتهم فى حطين وفقدانهم للقدس.

·       وبالفعل بدأت هذه الحملة فى الوصول الى عكا.

·       وفى مايو من عام 1218 م وصلت قواتهم قبالة دمياط وحاصرتها.

·       فعرض عليهم السلطان الكامل الجلاء عن مصر مقابل أن يأخذوا الصليب المقدس وان يمتلكوا مدينة بيت المقدس ووسط فلسطين والجليل وان يدفع المسلمون جزية عن الحصون التى تبقى بايديهم.

·       ورغم هذا العرض الكريم والسخى والمتخاذل، فان الصليبيين رفضوه.

·       وفى 5 نوفمبر 1219 سقطت دمياط فى ايديهم.

·       وفى صيف 1221 م واثناء تقدمهم الى فارسكور، بدأ فيضان النيل وفتحت الجسور واغرقت كل الطرق امام الجيش الصليبيى.

·       وتقدم الجيش المصرى وحرر دمياط فى سبتمبر من سنة 1221م.

·       ولقد استمرت هذه الحملة 4 سنوات وانتهت بالفشل.

·       ولقد كان فشلها، هو فشل للبابوية وانتقاصا من هيبتها، فلقد كانت هى الداعية الرئيسية الى هذه الحملة.

***

الحملة السادسة  ، الحملة العجيبة 1228 م ، والتنازل طواعية عن القدس!

·       استغل الامبراطور الالمانى فردريك الثانى والذى عرف باسم اعجوبة الدنيا، الروح السلمية للسلطان الكامل، فتبادل معه المراسلات ضد رغبة البابا.

·       وقد اسفرت هذه المراسلات عن قدوم الامبراطور الى فلسطين عام 1228 م وفى صحبته جيش صغير من الفرسان قوامه ستمائة فارس فقط واسطول هزيل، واستطاع رغم ذلك وبدون قتال، ان يوقع مع السلطان الكامل هدنة مدتها عشر سنوات على اساس ان يتسلم الامبراطور الالمانى مدينة القدس وبيت لحم وشريط من الارض يصل بين عكا والقدس ويبقى فى حوزة المسلمين المسجد الاقصى وقبة الصخرة والمناطق الريفية، وفى المقابل يتعهد فردريك بمنع اى حملة صليبية من اوروبا لمدة عشر سنوات.

·       وبالفعل توج نفسه ملكا على مملكة بيت المقدس الصليبية، وعاد الى اوروبا فى يونيو1229، بمكاسب لم تستطع اى حملة اخرى قبله ان تحققها منذ الحملة الأولى فى اواخر القرن الحادى عشر الميلادى.

·       وثار العالم العربى الاسلامى واعتبر هذه الهدنة كارثة حقيقية، وظهر رد فعل شعبى عنيف ضد السلطان الكامل.

·       وفى عام 1239 م مات السلطان الكامل، وبعد سلسلة من الحروب الاهلية بين الايوبيين فى مصر وبلاد الشام والجزيرة، اعتلى ابنه الصالح نجم الدين ايوب عرش السلطنة فى القاهرة عام 1240 م

***

التحرير الثانى للقدس 1244م:

·       اتاحت هذه الهدنة فرصة جيدة للصليبيين وزعماء الغرب الاوروبى لكى يستعدوا لجولة عسكرية جديدة ضد المسلمين.

·       وفى عام 1239 انطلقت حملة جديدة صغيرة استجابة لدعوة البابا جريجورى التاسع ووصلت الى عكا.

·       وفى نوفمبر 1239 التقى جيش الصليبيين المكون من ألف فارس مع الجيش المصرى قرب غزة، وهُزم الصليبيين.

·       ومن ناحية أخرى هجم الملك الناصر داود الايوبى حاكم الكرك على بيت المقدس واستعادها من الصليبيين عام 1239

·       و لكن نشأ صراعا  بين حكام المسلمين ، فتحالف الناصر داود و حكام دمشق وحمص مع الصليبيين ضد الصالح ايوب سلطان مصر، وتنازلوا لهم عن  طبرية وعسقلان، ومكنوهم من الصخرة بالقدس، فجلسوا فوقها يحتسون الخمر وعلقوا جرس على المسجد الأقصى.

·       وفى عام 1244 م تمكن السلطان الصالح نجم الدين ايوب من أخذ بيت المقدس بواسطة الخوارزمية

·       وكانت تلك هى الاستعادة الأخيرة لبيت المقدس التى ظلت بيد المسلمين العرب طوال سبعة قرون قبل ان يدخلها جيش اوروبى آخر وقبل ان يحتلها الصهاينة.

***

الحملة السابعة والأخيرة 1249م:

·       وكان رد الفعل الاوروبى سريعا، ففى عام 1245بدأ التنسيق بين الملك الفرنسى لويس التاسع وبين البابا انوسنت الرابع بشأن التجهيز لحملة صليبية جديدة هدفها استرداد بيت المقدس من الخوارزمية، وتكوين حلف مغولى مسيحى بهدف تطويق العالم الاسلامى والقضاء عليه. وهو المشروع الذى فشل بسبب الحلم المغولى بالانفراد بالسيادة على العالم.

·       وفى خريف 1248 أبحر الاسطول الصليبيى من ميناء مرسيليا الفرنسى الى قبرص ومنها تجاه الشواطىء المصرية فى مايو 1249

·       وفى 4 يونيو نزل الصليبيين قبالة دمياط، التى سقطت بدون قتال تحت تاثير شائعة ان سلطانهم المريض قد مات.

·       وكان السلطان قد قام بنقل معسكره الى مدينة المنصورة التى كانت قد خرجت الى الوجود قبل ثلاثين عاما فقط.

·       ونشطت المقاومة ضد الصليبيين، وجاء قوات عربية أخرى من بلاد الشام لنصرة المصريين

·       وفى خضم ذلك توفى السلطان نجم الدين ايوب واخفت زوجته شجرة الدر نبأ وفاته لكى لا تتأثرمعنويات الجيش

·       وتوجهت القوات الصليبية الى المنصورة، ولكن الامير بيبرس البندقدارى الذى صار فيما بعد السلطان الظاهر بيبرس تصدى للصليبيين واوقع بهم هزيمة فادحة فى معركة رهيبة قرب مدينة فارسكور فى فبراير 1250 م

·       وتم اسر لويس التاسع ونقل الى دار ابن لقمان القاضى بالمنصورة وأفرج عنه بعد فترة بعد ان افتدى نفسه بفدية كبيرة.

·       ولقى لويس التاسع حتفه بعد ذلك فى مغامرة صليية جديدة فى تونس.

·       وكانت الحملة السابعة بقيادة لويس هى آخر جهد اوروبى ضد مصر فى تلك المرحلة من العصور الوسطى

***

انهيار المشروع الصليبى:

·       اخذ الوجود الصليبيى بعد ذلك يتلاشى رويدا رويدا:

·       فبعد ان وحد الظاهر بيبرس مصر والشام، نجح عام 1265 بعد دخوله فى عمليات حربية واسعة فى تحرير قيسارية ثم ارسوف.

·       وصفد عام 1266.

·       وفى 1268 استولى على يافا.

·       وحرر انطاكية فى عام 1268 م بعد احتلال دام 150 عاما وكان ذلك اكبر انتصار حققه المسلمون على الصليبيين منذ ايام حطين واسترداد بيت المقدس، وكان الفرح عظيما.

·       ثم عقد هدنة مع ملك عكا الصليى مقابل التنازل عن نصف املاك التاج الصليبى فى عكا

·       وفى عام 1271 عقد هدنة مع ملك طرابلس الصليبى بوهيموند السادس بسبب قدوم حملة صليبية جديدة الى عكا تحت قيادة الامير ادوارد الانجليزى.

·       وفى 1285 م استولى السلطان المنصور قلاون على حصن المرقب.

·       وفى 1287 حرر اللاذقية، وهى آخر ما تبقى من امارة انطاكية الصليبية التى حررها بيبرس.

·       وفى ابريل 1289 حرر طرابلس ثم بيروت وجبلة، وانحصر الصليبيون فى عكا وصيدا وعثليت.

·       وبدأ الفصل الأخير فى هذه المواجهة المضنية الطويلة بتولى الأشرف خليل بن المنصور قلاون حكم البلاد.

·       ونجح عام 1291 م فى تحرير عكا بعد حصار استمر 43 يوما وبعد أسر دام 103 سنة.

·       وبعد عكا سقطت بقية المدن والمعاقل الصليبية تباعا، ودالت دولة الصليبيين فى فلسطين الى غير رجعة.

·       وعلى الرغم من ان بقايا الصليبيين فى قبرص ورودس ظلوا مصدر ازعاج فى القرنين التاليين الرابع عشر والخامس عشر الا ان قصتهم فى المنطقة العربية قد انتهت على امتداد خمسة قرون تالية. (يتبع)

*****

محمد سيف الدولة

 

 

 

الخميس، 11 نوفمبر 2021

فى ذكرى استشهاد أبو عمار

تم اغتيال أبو عمار عدة مرات، أشهرها هى مؤامرة تسميمه التى انتهت باستشهاده فى مثل هذه اليوم منذ سبعة عشر عاما فى 11 نوفمبر 2004.

 أما أولها فكانت مذابح أيلول الاسود التى انتهت بطرد المقاومة من الاردن عام 1970.

ثم مذبحة تل الزعتر التى ارتكبها النظام السورى والكتائب المارونية فى لبنان لكسر شوكة المقاومة الفلسطينية عام 1976.

أما أسوأها فكانت عملية الاغتيال الكبرى التى ارتكبها النظام المصري حين باع فلسطين لإسرائيل فى صفقة كامب ديفيد.

وتم اغتياله مرة أخرى حين تواطأت الأنظمة العربية مجتمعة مع الصهاينة والأمريكان على اخراجه والقوات الفلسطينية من لبنان فى 1982، ونفيهم بعيدا عن الارض المحتلة.

ثم ما تلى ذلك من عملية اغتيال بطئ على نار هادئة بالضغط عليه فى المنفى وكسر ارادته للاعتراف باسرائيل والتنازل عن فلسطين 1948 وعن الحق فى المقاومة فى اتفاقيات أوسلو المشئومة.

وحين حاول التراجع والتطهر وتغيير قواعد اللعبة وقلب الطاولة فوق رؤوسهم فى انتفاضة الاقصى عام 2000 وما بعدها، قرروا إخراجه من المشهد نهائيا، فقتلوه.

***

لقد علمتنا تجاربنا ان الزعماء الوطنيين لا يتم تقييمهم فقط بمواقفهم وافعالهم، وانما ايضا بالقياس على افعال ومواقف نظرائهم ومعاصريهم أو من يخلفونهم.

فجزء كبير، على سبيل المثال، من المكانة التاريخية للمشروع الوطنى فى مصر 1956 -1970 رغم نكسة 1967، مستمد من مقارنته بالردة الوطنية والقومية التى قادها السادات 1974-1981 واستمرت من بعده، رغم نصر 1973.

كذلك هو الوضع فى حالة ياسر عرفات، فلقد كان لابو مازن فضل كبير فى اعادة الاعتبار لابو عمار بعد وفانه رغم تورطه فى توقيع اتفاقيات اوسلو؛

فمن زعيم فلسطينى وطنى يحرض على الانتفاضة ويدعم فصائل المقاومة والعمليات الاستشهادية سرا، الى رئيس يستمد شرعيته من رضا (اسرائيل) ومن حماية أمنها، ويطارد المقاومة ويصف الانتفاضة الفلسطينية بانها كانت بمثابة كارثة على الفلسطينيين.

***

وهى ليست مقارنات عاطفية فقط، بل فيها جوانب موضوعية وواقعية يمكن القياس عليها والاحتكام اليها؛ ففى ظل ذات الظروف والضغوط والامكانيات والاختلال الهائل فى موازين القوى، اختار ابو عمار، بقدر الامكان، توسيع مساحات الارادة والتحدى واستقلالية القرار والمناورة والمواجهة، بينما اختار ابو مازن وسلطته وجماعته التبعية والخضوع الكامل.

رحم الله ابو عمار وغفر له واسكنه فسيح جناته.

*****

محمد سيف الدولة 

السبت، 6 نوفمبر 2021

ماهية الحروب الصليبية (6) مصر وصلاح الدين


 

     هذه هى الحلقة السادسة من قراءتنا فى كتاب ماهية الحروب الصليبيبة للدكتور/ قاسم عبده قاسم الذي رحل عن عالمنا في الاسابيع الماضية.

ولقد تناولنا فى الحلقات الخمس السابقة: الايدولوجية الصليبية، والظروف التاريخية والدوافع، وخطبة البابا والاستجابة الشعبية، والحملة الصليبية الاولى وإغتصاب القدس، وبدايات الوحدة والمقاومة والتحرير.

واليوم نتناول دور مصر وصلاح الدين الأيوبى وتحرير بيت المقدس والحملة الصليبية الثالثة بقيادة الملك الانجليزى ريتشارد الأول، الشهير بريتشارد قلب الأسد.

***

بعد تحرير الرها على أيدى عماد الدين زنكى عام 1144، ووقوع دمشق فى ايدى نور الدين محمود عام 1154 م، و تماسك الجبهة الشمالية العربية الاسلامية فى مواجهة الصليبيين، بدأت انظارهم تتجه الى مصر حيث ساد الضعف السياسى الشديد فى السنوات الأخيرة من حكم الخلافة الفاطمية.

وكان اتحاد حلب ودمشق تحت حكم نور الدين قد جعل من غزو مصر الحل الوحيد لنجدة الصليبيين. خاصة وانها بمواردها البشرية والاقتصادية الكبيرة كفيلة بترجيح كفة من يستولى عليها أو يضمها الى جانبه، ولقد خشى الصليبيون بان تقع فى يد نور الدين هى الأخرى، فقرروا ان يأخذوا بزمام المبادرة.

***

الوضع فى مصر:

·       كانت مصر تحت حكم الخلافة الفاطمية منذ 969 م.

·       ومع قدوم الحملة الصليبية الاولى كان الدولة الفاطمية اشبه بالرجل المريض الذى ينتظر الجميع نهايته والاستيلاء على تركته.

·       وكان الصليبيون قد نجحوا عام 1153 م فى الاستيلاء على مدينة عسقلان من المصريين والتى كانت تمثل تهديدا لوجودهم فى فلسطين.

·       اما داخل مصر فمنذ وزارة بدر الدين الجمالى عام 1073 م صار الوزراء هم اصحاب السلطة الحقيقية وأصبح الخلفاء الفاطميين ألعوبة بايديهم.

·       وبعد اغتيال الأفضل بن بدر الجمالى عام 1121 م دخلت البلاد فى دوامة من المؤامرات والدماء لم تنته.

·       والتى كان من آثارها انه فى عام 1163 م، نشأ نزاع على كرسى الوزارة فى مصر بين رجلين هما ضرغام وشاور، وقد هرب الأخير الى الشام يستنجد بنور الدين محمود، من ضرغام الذي نجح فى الانفراد بالحكم.

·       وفى نفس العام 1163 م توفى بلدوين الثالث ملك بيت المقدس، وخلفه أمارلريك الأول (عمورى)

·       وتحت حجة عدم دفع مصر للجزية التى تقررت عليها فى عهد سلفه، قام امالريك 1163 بعبور برزخ السويس وحاصر مدينة بلبيس.

·       ولكن تصدى له ضرغام، وقطع جسور النيل بحيث شكلت مياه الفيضان واوحال الدلتا عائقا رهيبا جعل الصليبيين يعودون الى فلسطين.

·       ورغم هذا الموقف من ضرغام، الا انه عندما علم ان نور الدين محمود قد قرر دعم شاور فى استرداد كرسى الوزارة فى مصر، فانه هو الذى قام بطلب دعم الصليبيين، الذين لم يترددوا واطلقوا حملة صليبية جديدة بقيادة ملكهم أمالريك الى مصر.

·       وكان نور الدين قد ارسل حملة الى مصر لدعم شاور، بقيادة أسد الدين شيركوه وبرفقته إبن أخيه الشاب ذو السبعة وعشرين ربيعا صلاح الدين يوسف الايوبى. وقد نجحت الحملة فى دخول مصر واعادة شاور الى كرسى الوزارة.

·       ولكن شاور هو الذى قام هذه المرة بالاستنجاد بالملك الصليبيى للتخلص من نفوذ أسد الدين شيركوه. والذى استجاب فورا وهاجم مصر.

·       وخلال السنوات 1163 – 1169 قام الملك الصليبى بغزو مصر خمس مرات.

·       وبعد سلسلة من المعارك انتهى الأمر بانتصار جيوش أسد الدين شيركوه واستتباب الأمر له فى مصر.

·       وكانت المحاولة الأخيرة لهذا الملك الصليبى عام 1169 عندما فشلت حملته المشتركة مع البيزنطيين على مصر، بعد ان حاصر ميناء دمياط 50 يوما.

·       وفى خضم هذه الأحداث قتل كل من ضرغام وشاور.

·       وأصبح أسد الدين شيركوه وزيرا للخليفة العاضد الفاطمى.

·       وبعد موته عام 1169 تولى صلاح الدين الوزارة.

***

صلاح الدين يحرر القدس:

·       وفى 10 سبتمبر 1171 م أعلن صلاح الدين نهاية الخلافة الفاطمية واعادة مصر الى الخلافة العباسية.

·       وفى هذه الأثناء كانت دولة نور الدين محمود قد اتسعت لتشمل خمس عواصم هى دمشق والرها وحلب والموصل ثم القاهرة.

·       ولكن وافته المنية عام 1174، وتلاه الملك الصليبى امالريك فى نفس العام، وخلت الساحة لصلاح الدين، والذى استطاع بعد سلسلة من المنازعات والصراعات اعلان نفسه ملكا على مصر والشام بمباركة الخليفة العباسى عام 1175 م.

·       وقضى صلاح الدين فى مصر ستة سنوات 1176-1181 لترتيب الاوضاع الداخلية فى مصر والشام، استعدادا للحرب ضد الصليبيين، متجنبا قدر الامكان اى مواجهة كبيرة معهم قبل الأوان.

·       وطوال هذه الفترة، لم تتوقف غارات الصليبيين على مصرعبر سيناء، وبل انهم وصلوا فى أحد غزواتهم الى بحيرة البردويل.

·       وحاول رينالد دى شاتيون أمير الكرك ان يقتحم البحر الأحمر ويغزو مكة والمدينة وهاجم بالفعل بعض موانىء مصر والحجاز، ولكن الاسطول المصرى سحق اسطوله تماما.

·       وبعد مرحلة الاستعداد قرر صلاح الدين بدء عملياته ضد الصليبيين، وكانت قمة انتصاراته فى 4 يوليو 1187 فى موقعة حطين الشهيرة، والتى أدت الى فقدان مملكة بيت المقدس لقواتها العسكرية الرئيسية، وتم تدمير أكبر جيش صليبى أمكن جمعه منذ قيام الكيان الصليبى.

·       وبعد حطين كانت الأمور أشبه بنزهة عسكرية، اذ سارعت المدن والقلاع الصليبية الى الاستسلام واحدة تلو الأخرى، فتحررت عكا ويافا وبيروت وجبيل ثم عسقلان وغزة.

·       وفى 27 سبتمبر 1187 دخل صلاح الدين المدينة المقدسة وحررها بصورة انسانية تناقض وحشية الصليبيين حين غزوها قبل بضع وثمانين سنة. واقيمت خطبة الجمعة فى المدينة المحررة بعد أن ظلت ممنوعة طويلا.

·       ولم يتبق بايدى الصليبيين سوى صور وأنطاكية وطرابلس وبعض القلاع والحصون المتناثرة على الارض العربية فى بلاد الشام.

·       وجاء رد الفعل الصليبى عنيفا، فمات البابا اربان الثالث من هول الصدمة حين بلغته الأنباء. وبعث خليفته البابا جريجورى الثامن خطابا بابويا الى " كل المؤمنين فى الغرب " ووعدهم بغفران كامل لخطاياهم اذا شاركوا فى حملة صليبية جديدة، وفرض صياما كل يوم جمعة على مدى خمس سنوات قادمة، والامتناع عن أكل اللحم فى أيام السبت والأربعاء.

·       وتم فرض ضريبة مقدارها 10 % على كل دخل وعلى الأملاك المنقولة، عرفت باسم " عشور صلاح الدين".

***

الحملة الصليبية الثالثة :

·       واستلم شارة الصليب كل من الامبراطور الالمانى فردريك بربروسا والملك الانجليزى ريتشارد الاول والملك الفرنسى فيليب اغسطس.

·       وفى 11 مايو 1189 تحركت قوات الامبراطور الالمانى عبر ذات الطريق البرى الذى سارت فيه من قبل الحملة الاولى، ولكنه لقى حتفه غريقا فى أحد انهار آسيا الصغرى عام 1190، واكتفت قواته بعدها بمشاركة رمزية فى هذه الحملة.

·       اما الملكين الانجليزى والفرنسى فتوجها بحرا الى صقلية ثم الى فلسطين، وفى الطريق انتزع الملك ريتشارد قبرص من الحكم البيزنطى.

·       وكانت بقايا جيوش الصليبيين فى الشرق قد تجمعت فى مدينة صور. وبدأت الجيوش والامدادات الاوروبية تفد الى بلاد الشام.

·       وفى المعارك الاولى سقطت عكا فى يد الصليبيين عام 1191، وعاد فيليب اغسطس الى فرنسا.

·       بدأ ريتشارد بعد سقوط عكا يعد للاستيلاء على شاطئ فلسطين من عكا إلى عسقلان، فاستولى الصليبيون على حيفا التي أخلتها حاميتها الإسلامية، ثم على قيسارية التي خربها المسلمون حتى لا ينتفع بها الصليبيون، وفي أثناء ذلك فتح ريتشارد باب المفاوضات مع صلاح الدين، ولكنها فشلت بسبب تمسك ريتشارد بأن تعود مملكة بيت المقدس الصليبية إلى ما كانت عليه قبل حطين. ثم نشبت بين الطرفين معركة أرسوف 7 من سبتمبر 1191م، والتى انتصر فيها الصليبيون. ثم اتجه ريتشارد إلى القدس، ولكنه فشل فى الاستيلاء عليها.

***

صلح الرملة :

وبعد 16 شهرا قضاها الملك الانجليزى فى حروبه ضد المسلمين، اضطر فى النهاية الى عقد صلح الرملة مع صلاح الدين عام 1192، وهو الصلح الذى ابقى الوضع على ما كان عليه. وقد نص على ما يلى:

·       أن يسود السلام بين الفريقين ثلاث سنوات وثلاثة أشهر.

·       أن يكون للصليبيين المنطقة الساحلية من صور إلى يافا، بما فيها قيسارية وحيفا وارسوف، وتبقى صيدا وبيروت وجبيل للمسلمين.

·       تكون عسقلان مدينة غير مسلحة في أيدي المسلمين.

·       تكون اللد والرملة مناصفة بين المسلمين والصليبيين.

·       تبقى القدس في أيدي المسلمين على أن يكون للمسيحيين حرية الحج إلى بيت المقدس دون مطالبتهم بأية ضريبة.

بعدها، أعلن صلاح الدين أن الصلح قد انتظم، فمن شاء من بلادهم أن يدخل بلادنا فليفعل ومن شاء من بلادنا أن يدخل بلادهم فليفعل.

***

وفى 4 مارس 1193 انتقل صلاح الدين الى جوار ربه، بعد أن سطر سلسلة من الانجازات والانتصارات، ما زالت تمثل مرجعية والهاما لكل الراغبين فى التحرر والنصر على مدار الأجيال و حتى يوما هذا.

ولكن ظل للصليبيين وجودا فى الشام، وظل خطر قدوم حملات صليبية جديدة قائما، ومر قرن آخر قبل ان يتمكن العالم العربى الاسلامى من تحقيق التحرير الكامل والتام للارض المحتلة.

*****

القاهرة فى 6 نوفمبر 2021