بحث فى المدونة

الأحد، 26 مارس 2023

ماذا حدث للمعارضة المصرية؟

لماذا توقفت المعارضة المصرية عن المطالبة باستقلال مصر وتحريرها من اتفاقيات كامب ديفيد وما ارتبط بها من تبعية للولايات المتحدة الامريكية؟

***

·       ان كامب ديفيد ليست مجرد معاهدة ثنائية ترتب عليها استرداد ارضنا المحتلة مقابل حزمة من التنازلات مثل القبول بتجريد ثلثى سيناء من القوات والسلاح، والاعتراف (باسرائيل) والتطبيع معها. بل هى نظام حكم متكامل، انها الدستور الفعلى لمصر؛ يستطيع المصريون ان يسقطوا رئيس الجمهورية وان يغيروا دساتيرهم او يعدلونها ولكنهم لا يستطيعون منذ 44 عاما الاقتراب من معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية الموقعة فى 26 مارس 1979 والمشهورة باسم اتفاقيات كامب ديفيد.

·       فمنذ اعطى السادات 99% من اوراق اللعبة للامريكان، فانهم قد قاموا بالعمل على تفكيك مصر التى انتصرت فى 1973 وبناء مصر اخرى جديدة على مقاس مصالح الولايات المتحدة وامن (اسرائيل).

·       ففى مصر كامب ديفيد، لا نستطيع ايقاف التسهيلات اللوجستية للقوات الامريكية فى قناة السويس أو التوقف عن قبول المعونة العسكرية وكسر الاحتكار الامريكى لما يزيد عن 60 % من التسليح المصرى، أو توجيه هذا السلاح، اذا تغيرت الظروف، الى (اسرائيل) او اى من حلفاء امريكا، أو الامتناع عن اى مناورات عسكرية مشتركة.

·       ولا نستطيع الانسحاب من اى محاور او تحالفات اقليمية او دولية اسسها الامريكان، أو اعادة تشكيل سياستنا وعلاقتنا وتحالفاتنا الخارجية والاقليمية على اساس مناهض للنفوذ الامريكى، أو المطالبة باستبدال قواتهم فى سيناء ضمن ما يعرف بالـ MFO بقوات تابعة للامم المتحدة.

·        ولا نستطيع انتخاب رئيس جمهورية لا توافق عليه الولايات المتحدة كما قال د. مصطفى الفقى عام 2010، او كما ذكر آفى ديختر وزير الامن الاسرائيلى الداخلى الاسبق فى محاضرته الشهيرة عام 2008 حين قال ((لقد انسحبنا من سيناء على ان نعود اليها اذا تغير النظام فى مصر لغير صالح اسرائيل))

·       ولا نستطيع ان نزيد عدد قواتنا فى سيناء الا باذن (اسرائيل)، أو نقوم بدعم المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطينى ضد الاحتلال، او نقطع العلاقات ردا على جرائمها اليومية فى فلسطين أو عن اعلانها ضم الجولان أو اعتداءاتها التى تتوقف على سوريا ومن قبل على لبنان وتونس والسودان والعراق الى ان فقدنا مكانتنا المركزية وتضآل دورنا فى المنطقة واصبحت هى قوة اقليمية عظمى.

·       ولا نستطيع أن نقول لا للدائنين فى نادى باريس وصندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية وللمستثمرين الاجانب من شركات متعددة الجنسية ووكلائهم المحليين، ولا نستطيع ان نحمى صناعاتنا الوطنية او نرفض بيع القطاع العام او تعويم العملة المصرية وربطها بالدولار.

وغيره الكثير.

***

لكل ذلك وأكثر وصف شيوخنا واساتذتنا الذين اعتقلهم السادات عام 1981.. وصفوا المعاهدة فقالوا: ((أخذنا نحن سيناء وأخذوا هم مصر كلها.))

***

·       ورغم ان جميع مفكرى ومنظرى وقادة وكوادر الحركة السياسية المصرية بكافة أطيافها يعلمون هذه الحقائق، الا انهم توقفوا منذ سنوات طويلة قبل ثورة يناير وبعدها عن الاقتراب من هذا الموضوع او التعرض له، وكأن هناك شبه اجماع على قبول التبعية والاعتراف بها والتطبيع معها والعيش فى أكنافها.

·       بدأت هذه الظاهرة فى أعقاب الغزو الامريكى للعراق عام 2003، فلقد اخذ يتراجع الخطاب الوطنى المناهض للاحتلال الامريكى و(اسرائيل)، ليحل محله بالتدريج خطاب الاصلاح السياسى والديمقراطية، الى أن توحد الجميع عشية الثورة على هدف رئيس وربما وحيد هو رفض استمرار حسنى مبارك أو توريث الحكم لنجله.

·       وحين نجحت ثورة يناير فى ذلك، غرقت القوى السياسية فى مطالب الدستور والانتخابات وتداول السلطة والحريات فقط، وتحاشت تماما الاقتراب من قضايا التبعية وكامب ديفيد، بل على العكس حرص الجميع على إعطاء تطمينات للخارج بالتزامهم بالمعاهدة، وتسابقوا للفوز بدعم الامريكان ومباركتهم فى صراعاتهم مع الخصوم والمنافسين على السلطة، الى ان فاز النظام القديم ومؤسساته العميقة فى هذا السباق بامتياز وبالضربة القاضية، بعد أن أدرك الأمريكان انه النظام الأقدر على حماية كامب ديفيد فى مصر.

·       ثم بعد يونيو ويوليو 2013 وحتى يومنا هذا، ظل الخطاب المناهض للتبعية و(اسرائيل) غائبا، فتحت ضغط العصف بثورة يناير وبكل من شارك فيها اسلاميون كانوا او مدنيون، أصبح للجميع مطلبا وحيدا هو الافراج عن المعتقلين وتخفيف القبضة الامنية الحديدية واعادة الهامش الديمقراطى الذي كان ايام مبارك، وظل الكثير منهم يراهن على الامريكان ويناشدهم للتدخل والضغط على السلطات المصرية من اجل ذلك، رغم ما ثبت من دورهم ودعمهم ومباركتهم لما تم من اجهاض الثورة والعصف بمكتسباتها.

***

·       لقد كانت هناك نظرية قبل ثورة يناير مفادها، ان الانظمة العربية المستبدة لا يمكن ان تتنازل عن استبدادها قيد أنملة ولو بعد عشرات السنين، وانه لا قبل للشعوب بقبضتها الباطشة، فلا بديل عن الاستفادة الى اقصى حد من الضغوط الخارجية لمحاولة انتزاع اى مكاسب ديمقراطية ممكنة، وهو ما يستدعى تقديم تنازلات سياسية من ضمنها تخفيف الخطاب المناهض للامبريالية والصهيونية او التراجع عنه تماما.

·       ثم كانت هناك نظرية أخرى بعد الثورة بأن الاوضاع لا تزال على المحك والثورة لم تستقر بعد، وهى تحتاج الى دعم واعتراف دولى وضغوط امريكية على قيادات ومؤسسات النظام القديم لغل اياديها عن العصف بالثورة والانقضاض عليها، وهو ما يستدعى تجنب اتخاذ اى مواقف يمكن ان تستفز المجتمع الدولى او تخيفه من الثورة المصرية.

·       وأن دعونا نركز على الاصلاح السياسى والدستورى اولا، لانه بامتلاك مؤسساتنا الديمقراطية المستقلة، وتحقيق تداول سلطة حقيقى فى مصر، سيكون تحقيق كل اهدافنا بعد ذلك سهلا وممكنا.

·       ثم نظرية ثالثة فى السنوات الاخيرة، باننا فى أمس الحاجة الى الضغط الدولى لايقاف او حتى تخفيف العصف العنيف بالحريات وحقوق الانسان.

·       وهكذا كانت هناك دائما نظريات واسباب وذرائع لتبرير الانسحاب من ساحات وبرامج ومشروعات وخطابات المواجهة مع الامريكان و(اسرائيل) وكامب ديفيد.

·       والمؤلم والغريب والمخيف ان المشهد يبدو وكأن جميع الفرقاء تقريبا قد اتفقوا على رفع الراية البيضاء، رغم ان بينهم ما صنع الحداد.

·       ورغم ان كل تجاربنا وتجارب غيرنا، اثبتت مرارا وتكرارا أن أمريكا هي العدو الأصلي، وأن الرهان عليها هو بمثابة انتحار وطني وسياسى.

***

·       واخيرا يجب التأكيد على أن مطالب الحريات والديمقراطية وحقوق الانسان وتداول السلطة والفصل بين السلطات، هى كلها مطالب صحيحة ومشروعة الا انها غير كافية وعديمة الجدوى فى ظل دولة غارقة فى التبعية والتطبيع والسلام بالاكراه.

·       فالحرية والاستقلال هما وجهان لعملة واحدة، لا يستقيم أحدهما دون الآخر.

·       ان هدف التحرر من التبعية ومن قيود كامب ديفيد يعادل فى مركزيته واولويته، هدف التحرر من الاحتلال البريطانى الذى توحد خلفه كل المصريين على امتداد 75 عاما.

*****

محمد سيف الدولة

 

 

الجمعة، 24 مارس 2023

كونوا عربا

غضبت الأردن واستدعت سفير الاحتلال، واصدرت وزارات الخارجية العربية بيانات رفض وادانة ردا على تصريحات وزير المالية الاسرائيلى "بتسلئيل سموتريتش" التى استخدم فيها خريطة ما يسمى باسرائيل الكبرى تضم كل فلسطين وكل الاردن وأجزاء من لبنان والسعودية كما قام بنفى وجود الشعب الفلسطينى وقال عنه انه ليس سوى اختراع وهمى عمره 100 سنة فقط، فقال بالنص: ((الشعب الفلسطيني اختراع لم يتجاوز عمره 100 عام .. لا يوجد فلسطينيون لأنه لا يوجد شعب فلسطيني .. بعد 2000 عام في المنفى يعود شعب إسرائيل إلى دياره .. وهناك عرب حولهم لا يحبون ذلك ... اخترعوا شعبا وهميا ويدعون حقوقا وهمية في أرض إسرائيل فقط لمحاربة الحركة الصهيونية .. هذه هي الحقيقة التاريخية، هذه هي الحقيقة التوراتية ... التي يجب أن يسمعها العرب في إسرائيل وكذلك بعض اليهود المشككين في إسرائيل، هذه الحقيقة يجب أن تُسمع هنا في قصر الإليزيه، وفي البيت الأبيض في واشنطن))

***

صهاينة أصلاء وعرب كومبارس:

·       ونحن نقول للسادة الحكام والمسئولين العرب: برجاء التفضل بالكف عن وضع رؤوسكم فى الرمال ومواصلة تضليل الرأى العام العربى والأجيال الجديدة والاصرار على مواصلة القيام بدور الكومبارس فى هذه المسرحية الهزلية المستمرة المسماة بعملية السلام.

·       فأنتم أول من يعلم ان (اسرائيل) بكل من فيها من اليهود الصهاينة وكل احزابها وقادتها ومن يحكمونها لم ولن يتخلوا أبدا عن العقيدة الصهيونية التى تدعى أن الوجود العربى فى فلسطين وكل المنطقة هو استعمار عربى اسلامى منذ 14 قرن، قام باحتلال أرض اسرائيل بالاضافة الى أراضى الشعوب الأصلية فى مصر وسوريا والاردن والعراق وباقى المنطقة. وأن الحركة الصهيونية هى حركة تحرر وطنى تمكنت من تحرير جزء من ارضها، وستعمل على تحرير الاجزاء الباقية، كما ستقوم بدعم كل شعوب المنطقة للتحرر هى الأخرى من الاحتلال العربى لاراضيها وتاسيس دول ودويلات مستقلة على النموذج الصهيونى.

·       والوزير الصهيونى لم يفعل سوى انه طرح على الملأ معتقداتهم وثوابتهم التى يتبادلونها يوميا فيما بينهم. وهو قد يكون تصرفا صبيانيا من منظور قادة الدولة العبرية، ليس من الذكاء والحصافة ان يتم الاعلان عنه فى هذه المرحلة التاريخية، ولكنه محل اجماع بينهم جميعا، ولم يحدث ابدا ان قام اى منهم بنفيها.

·       ومحاولة الطمأنة التى صدرت من وزارة الخارجية (الاسرائيلية) ردا على تصريحات الوزير الصهيونى بان (اسرائيل) تلتزم بمعاهدة السلام مع الاردن وتعترف بوحدة الاراضى الاردنية وبحدودها الدولية، ليس نفيا للعقيدة الصهيونية وانما التزاما تكتيكيا مؤقتا سيتغير حتما اذا سنحت الظروف وتبدلت.

·        وقد سبق لمناحم بيجين حين سُئل عن اسباب انسحابه من سيناء وهى تقع ضمن ارض (اسرائيل) الكبرى أن قال بالنص عام 1979: ((سنضطر إلى الإنسحاب من سيناء لعدم توافر طاقة بشرية قادرة على الاحتفاظ بهذه المساحة المترامية الأطراف. سيناء تحتاج إلى ثلاثة ملايين يهودى على الأقل لاستيطانها والدفاع عنها. وعندما يهاجر مثل هذا العدد من الإتحاد السوفيتى أوالأمريكتين إلى إسرائيل سنعود إليها وستجدونها فى حوزتنا ((.

***

اسألوا كبيرهم:

·       ولقد كرر"نتنياهو" ذات المعنى باستفاضة، في مقابلة تَمّ إجرائها معه خلال شهر ديسمبر ٢٠٢٢، قام بترجمتها ونشرها عبد الرحمن البيطار حيث تحدث عن قيام "الغزاة العرب" لارض اسرائيل بفبركة التاريخ، فقال: ((إنَّ فقداننا لأراضينا قد حصل بالفعل عندما قام العرب بغَزْوِنا. لقد انطلق العرب من جزيرة العرب، واقترفوا أفعالا (بحقنا) لم يقترفها غازٍ آخر؛ لا الرومان، ولا البيزنطيين، ولا الإسكندر (المكدوني) العظيم، ولا أي غاز آخر من قبل. وفي حقيقة الأمر، فقد قامت عساكرهم المُسْتَعمِرة بالسيطرة على الأرض، وأصبح اليهود بالتدريج خلال قرنين من الزمان (تحت سيطرتهم) أقلية في أراضينا. لذا، فإنه، وبفعل الغزو العربي، فقد خسر اليهود بلادهم. لقد كان العرب هم المُستَعمِرون، أما اليهود، فكانوا سكان البلاد، الذي تم تجريدهم من مُلكياتهم ... وكان نتاج عودتنا (إلى بلادنا) أنْ أَخذنا نقوم بإنشاء المَزارع، والمصانع، والمنشآت التي تخلق فرص عمل، وبفعل ذلك، بَدَأَ عرب البلدان المُجاورة بالهجرة، بما أصبحوا اليوم يُطْلِقونَ على أنفسهم بالفلسطينيين. وقام هؤلاء بإعادة فَبْركة التاريخ، وادّعوا أنهم كانوا هناك لعدة قرون.))

·       والأمثلة كثيرة.

***

ان تاريخهم معنا ليس سوى سلسلة من عمليات النصب والخداع الاستراتيجى وفقا لطبيعة كل مرحلة بدون أدنى تراجع عن أسس وثوابت المشروع الصهيونى؛ فما كانوا يقبلونه فى مرحلة ما، سرعان ما يرفضونه لاحقا وفقا لتطور ميزان القوى الاقليمية والدولية الصاعد على الدوام لصالحهم:

·       ففى 1897-1922 وكان عددهم فى فلسطين لا يتعدى 60 الفا، اكتفوا بطلب اقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين بدون دولة، ولكن حين بلغ عددهم 650 الفا فى 1947، طالبوا بدولة لليهود.

·       وقبلوا فى بادئ الأمر بـقرار التقسيم الذى وهبهم 55% من أرض فلسطين، ولكنهم عادوا واستولوا على 78 % فى حرب 1948.

·       وبعد عدوان 1967، ادعوا قبولهم بالقرار 242 القاضى بالانسحاب الى حدود 4 يونيو 1967، ثم رفضوا لاحقا اى انسحاب الا من سيناء مقابل انسحاب مصر من الصراع.

·       واليوم يحتلون الجولان وكل فلسطين ويعلنون ضمها ورفض الانسحاب منها.

·       وحتى تلك الاراضى العربية التى ينسحبون منها او التى لم يقوموا باحتلالها بعد، فانهم يفرضون قيودا على وجود وتسليح القوات العربية فيها كما فعلوا مع مصر والاردن.

·       ويفرضون مع الامريكان شروطا على طبيعة انظمة وحكام الدول العربية كما قال د. مصطفى الفقى عام 2010 من ان رئيس مصر يجب ان توافق عليه امريكا وتقبل به (اسرائيل)، وكما قال آفى ديختر وزير الامن الداخلى الاسبق عام 2008 بانهم انسحبوا من سيناء على ان يعودوا اليها اذا تغير النظام فى مصر لغير صالح (اسرائيل).

·       ويفرضون وشروطا وقيودا صارمة على جملة تسليح الدول العربية مجتمعة.

·        ويضعون فيتو على اى سلاح نووى عربى او ايرانى.

·        ويعطون لانفسهم حقوق السيادة والقصف والعربدة كما يشاءون فى السماوات العربية فى سوريا ولبنان والعراق وتونس والسودان وغيرها.

·       ولست جرائم القتل والابادة اليومية لأهالينا فى فلسطين سوى ترجمة واقعية لطبيعة الكيان ومشروعه.  

***

لا جديد فى تصريحات وزيرهم ولا جديد فى (اسرائيل) أو فى حكومتها الجديدة؛ فهم لم يتنازلوا أبدا عن الصهيونية، وانما المشكلة الحقيقة فينا نحن حين تخلينا عن عروبتنا وعن ثوابتنا فتنازلنا عن أوطاننا واعترفنا بشرعية هذا الكيان العدوانى الباطل.

*****

القاهرة فى 24 مارس 2023
 

الاثنين، 20 مارس 2023

فى ذكرى الغزو الأمريكى ـ دعوة للمراجعة والمواجهة

فى هذا الحديث سأتناول الغزو الامريكى للعراق من خلال الزوايا والجوانب التالية:

1)   الخضوع الطوعى والاخضاع بالاكراه.

2)   مستعمرة أمريكية كبرى.

3)   بين الاستبداد الوطنى والديمقراطية التابعة.

4)   العراق وإيران.

5)   الترحم على الاتحاد السوفيتى.

6)   الاستقواء بالخارج.

7)   الحكام العرب يرفعون الراية البيضاء.

8)   التواطؤ المصرى والسورى.

9)   انتقال القيادة الى المحميات الأمريكية من ممالك وامارات النفط والغاز.

10)                     سقوط النظام العربى الرسمى.

***

الاخضاع بالاكراه:

·       لم يكن الغزو العسكرى الامريكى للعراق واحتلاله على طريقة استعمار القرن التاسع عشر سوى الوسيلة التى اختارتها الولايات المتحدة لكسر العراق واخضاعه والحاقه بالحظيرة الامريكية، وهى الوسيلة التى لم تستخدمها ولم تحتاج اليها لاخضاع دول عربية اخرى، قبلت الخضوع طواعية بل سعت اليه.

***

تحول المنطقة العربية الى مستعمرة امريكية كبرى:

·       لم يسفر الغزو الأمريكى عن الاحتلال العسكرى للعراق فقط، بل لمنطقة الخليج باكملها، اذ قامت الولايات المتحدة بتكثيف وجودها العسكرى وبذر أكبر عدد من قواعدها العسكرية فى العراق والسعودية وقطر والكويت والامارات والبحرين، مع الحصول على تسهيلات لوجستية كبرى لطائراتها واساطيلها فى المجالات الجوية والممرات المائية الاستراتيجية فى عديد من الدول العربية، لتتمكن من تثبيت وتدعيم هيمنتها الكاملة على المنطقة، وليتحول العالم العربى بأكمله، الا قليلا، الى مستعمرة أمريكية بمعنى من المعانى.

·       وهي الحالة التى لا نزال تعيش فيها حتى اليوم والتى كان لها بالغ الأثر على كل صغيرة وكبيرة فى حياتنا.

·       والتى يتوجب ان يكون التصدى لها ومواجهتها على رأس برامج ومشروعات كل القوى الوطنية العربية، فهى الأساس لما نحن فيه الآن، والباقى فروع وتفاصيل.

***

الاستبداد الوطنى والديمقراطية التابعة:

·       يظل السؤال الأكثر محورية حول السرعة والسهولة التى تم بها هزيمة الدولة العراقية واسقاطها، رغم ما كانت تظهر به كدولة قوية وغنية ومسيطرة ومؤثرة تفرض قبضتها الحديدية على الداخل العراقى بلا منازع، وتعمل لها باقى دول المنطقة ألف حساب.

·       ولماذا لم تستمر وتتصاعد المقاومة الشعبية للاحتلال لتجبره على التراجع والانسحاب على غرار ما حدث فى بلاد أخرى كفيتنام وافغانستان على سبيل المثال؟

·       وهل كان استبداد النظام يبرر مواقف كل هذا الاعداد من القوى والطوائف والجماعات التى رحبت بالاحتلال الامريكى او صمتت وامتنعت عن مقاومته فى البداية، ثم سرعان ما قامت بالاعتراف به والتطبيع معه والالتحاق بالنظام الذى قام بتأسيسه والانخراط فى مؤسساته والمشاركة فى انتخاباته؟

·       وكيف يمكن للقوى الوطنية العربية ان تنتصر فكريا وسياسيا وشعبيا للمشروع والنموذج الثالث البديل عن نموذجى الدولة فى العراق؛ نموذج الدولة الوطنية المستبدة قبل السقوط ونموذج الدولة الديمقراطية التابعة بعد السقوط؟

·       فلا شك ان الاستبداد واخطاءه كان واحدا من اهم العوامل الاساسية التى مهدت لسقوط العراق وتدميره. وهو ما يرفض الحكام العرب بطبيعة الحال الاقرار به، بل على العكس فهم دائما ما يستشهدون بالضعف والفشل الذريع للدولة العراقية الحالية فى ظل نظام التعددية الحزبية، لشيطنة الديمقراطية والحريات والتبرير والترويج للاستبداد والدفاع عنه بمنطق قدرته على الحفاظ على وجود "الدولة الوطنية" وحمايتها من الانهيار والفشل.

·       وهى حجة قوية بالفعل تؤكدها لاول وهلة ما آلت اليه الأمور فى سوريا وليبيا واليمن بعد الثورات العربية المطالبة بالديمقراطية، من انهيار للدولة وتدويل لكل شئونها الداخلية.

·       ولكنها حجة مردود عليها بكم الهزائم والانهيارات التى حدثت بسبب الانفراد بالسلطة وصناعة القرار بلا مراقبة او محاسبة او تعقيب، ومنها تلك القرارات التى اتخذها صدام حسين باعلان الحرب على ايران 1980 او باحتلال الكويت عام 1990، قياسا على ما انتهى اليه حال العراق اليوم.

·       وهو ما ينطبق على حكام عرب كثيرين.

***

العراق وايران:

·       لم يسفر احتلال وتدمير الدولة العراقية عن انفراد الولايات المتحدة بحكم العراق، بل سرعان ما تمكنت ايران من اقتسام وانتزاع حصة كبيرة من النفوذ والسيطرة هناك مع الامريكان.

·       وهو ما يجعلنا امام وضع غير تقليديا، حيث يعانى العراق اليوم من ظاهرة استعمارية معقدة تحت وطأة التبعية المزدوجة لكل من الولايات المتحدة وايران فى آن واحد، اللتين تقومان باستنزاف العراق واستغلاله الى أقصى حد، كواحدة من أهم وأشرس جبهات صراعهما فى المنطقة.

·       واذا كانت الولايات المتحدة هناك بقوة السلاح والاقتصاد والهيمنة والجبروت الذين تمتلكهم كقوة عظمى منفردة بالعالم، فان الايرانيين هناك بقوة الطائفية المذهبية، وهى الظاهرة التى تثير اشكالية منهجية وسياسية كبرى فى التناقض والصراع القائم بين ما هو وطنى وعربى وبين ما هو دينى وطائفى او مذهبى.

·       ان اشقاءنا من التيار الوطنى والقومى فى العراق يغضبون ويوجهون اقصى الانتقادات الى كل من يتعاطف مع ايران فى صراعها مع امريكا و(اسرائيل) والغرب، ويطلقون عليها (اسرائيل الشرقية)، فى حين ان اشقائنا القوميين والعروبيين من انصار بشار الاسد والنظام السورى وحزب الله ومحور الممانعة، يعتبرون ان اى نقد يوجه الى ايران اليوم هو بمثابة دعم وانحياز الى المشروع الامريكى الصهيونى فى المنطقة.

·       وفى ذات المحور المتعلق بايران، يأتى السؤال حول الاسباب التى جعلت الولايات المتحدة لا تجرؤ على الاقدام على غزو ايران مثلما فعلت مع العراق رغم ان التناقضات والمخاطر التى تمثلها ايران على المصالح الامريكية تفوق بكثير تلك التى كان يمثلها عراق صدام حسين؟

·       وهو ما يستدعى دراسة وتحديد طبيعة وخصائص الدول وانظمة الحكم التى تجبر الدول الاستعمارية الكبرى على تجنب وتحاشى الاحتكاك بها عسكريا رغم التفوق الهائل فى القدرات والامكانيات والتسليح.

·       والاجابة الأولية بالطبع تكمن فى تلك الانظمة التي جاءت الى الحكم عبر ثورات شعبية حقيقية وتمتلك حاضنة بشرية مليونية من الكوادر والعناصر الثائرة القادرة على ايقاع ضربات مؤلمة بالعدو، وهو ما تفتقده كل انظمة الحكم العربية بدون استثناء.

***

الترحم على الاتحاد السوفيتى:

·       بعد أن شاركت عديد من الدول العربية فى اخراج الاتحاد السوفيتى من المنطقة فى السبعينات وما بعدها، مما كان احد المقدمات التى ساعدت على انهياره، فان مواقف كثيرة قد تغيرت، فيكاد اليوم يكون هناك شبه اجماع معلن او مستتر بين كل مؤسسات الحكم العربية وصناع القرار فيها على الترحم على يوم من أيام الثنائية القطبية. وذلك بعد ان إكتشفوا اهمية الدور الذى كان تقوم به فى الحفاظ على التوازن الدولى، وغل الايدى المتبادل بين القوى العظمى عن القيام بمثل هذه المغامرات وشن مثل هذه الحروب.

·       خاصة وقد كنا فى افغانستان والعالم العربى اول من تذوق سم الانفراد الامريكى بالعالم وما تبعه من احتلال وعربدة وعدوان على شعوبنا بلا رادع او خوف او حساب. وهو ما يفسر التعاطف العربى الحالى فى دعم روسيا فى صراعها مع الغرب فى اوكرانيا، رغم كونه نموذجا للعدوان والاستعمار الصريح لاراضى الغير وفقا لكل قواعد ومواثيق الامم المتحدة.

***

الاستقواء بالخارج:

·       حدث بعد الغزو ان استلهم عدد من القوى والجماعات السياسية المعارضة فى العالم العربى، النموذج العراقى لمواجهة انظمة الحكم المستبدة والفاسدة، فلجأت وراهنت على الاستقواء بالخارج واستدعائه للضغط او حتى للتدخل المباشر لازاحة الحكام "المستبدين".

·       خاصة بعد ان قام الامريكان باطلاق دعايتهم الكاذبة وحججهم الزائفة لتبرير الغزو، بانهم جاءوا من اجل الحريات ودقرطة الدول العربية وانقاذ الشعوب العربية من الحكام المستبدين.

·       ولأول مرة أصبح للخيانة الوطنية مدرسة ووجهة نظر، وتزايد انصارها من بضع عشرات او مئات الى الاف والملايين فى بعض الاقطار فى السنوات الأخيرة.

·       ولكن يتوجب الاقرار بأن الشريك او ربما الفاعل الرئيسى فى هذه الجريمة الكبرى، هو الحاكم المستبد ونظامه البوليسى الباطش الذين دفعوا الملايين من شعوبهم دفعا لاستدعاء الخارج.

***

الحكام العرب يرفعون الراية البيضاء:

·       هؤلاء الحكام المستبدون الذين اصابهم الذعر بعدما شاهدوا ما يمكن ان يفعله الامريكان مع واحد منهم، لم يلبثوا ان قاموا برفع الرايات البيضاء، وتسابقوا للاعتراف بشرعية الاحتلال والتطبيع مع النظام الذى اسسه فى العراق بعد الغزو.

·       بل منهم من قام بالإبلاغ عن نفسه بنفسه، مثلما قام القذافي فى 19 ديسمبر 2003 بالإعلان عن ان ليبيا ستزيل طوعا جميع المعدات والمواد والبرامج التى يمكن ان تؤدى الى اسلحة محظورة دوليا بما فى ذلك اسلحة الدمار الشامل والصواريخ الباليستية بعيدة المدى وقام بالفعل بالانضمام الى اتفاقية حظر الاسلحة الكيميائية فى 5 فبراير 2004.

·       ومنهم مبارك الذي استجاب للتعليمات الامريكية لتوسيع هامش الديمقراطية للمعارضة السياسية، فتم تقليص نسبة التزوير فى الانتخابات البرلمانية عام 2005 بما سمح بدخول اكثر من مائة نائب معارض لاول مرة فى البرلمان منهم 88 نائبا اخوانيا، وتم تخفيف قبضة الدولة عن الحق فى التظاهر وتاسيس حركات مدنية معارضة كحركة كفاية و6 ابريل والجمعية الوطنية للتغيير وعودة محمد البرادعى وفتح الاعلام للآراء المعارضة وغيره مما كان له انعكاسات كبيرة على الداخل المصرى مهدت لثورة يناير.

·       وبالفعل التقطت قطاعات واسعة من المعارضة المصرية المدنية والاسلامية "الطعم"، ورحبت بالضغوط الامريكية سرا او علانية وحاولت الاستفادة منها لتحقيق اكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية، وقبلت دفع الثمن المطلوب امريكيا وهو تغيير او تخفيف خطابها الوطنى القديم بمناهضة الاحتلال الصهيونى لفلسطين والاحتلال الامريكى للعراق.

·       وهو ما يفسر لماذا جاءت ثورة يناير المصرية باجندة ليبرالية صرفة، منزوعة الدسم فى كل ما يتعلق برفض التبعية والتحرر من اتفاقيات كامب ديفيد، ومكتفية ومركزة فقط على الاصلاح السياسى والدستورى والحريات وحقوق الانسان والفصل بين السلطات والانتخابات النزيهة وتداول السلطة.

·       ورغم ان كلها مطالب صحيحة ومشروعة الا انها غير كافية وعديمة الجدوى فى ظل دولة غارقة فى التبعية والتطبيع.

·       ولذلك ورغم كل ما قدمته المعارضة السياسية المصرية من تنازلات مبدئية لتحقق حلمها القديم فى نظام ديمقراطى، الا انها فشلت فى تحقيقه وتم اجهاض ثورتها، وفشل رهانها على الامريكان، اذ سرعان ما استطاع النظام الحاكم القديم ودولته العميقة ومؤسساته النافذة من اقناع الامريكان بسوءات الديمقراطية فى بلدانهم التى ستأتى حتما بتيارات وقوى وجماعات معادية للامريكان ومناهضة لاسرائيل.

***

التواطؤ المصرى والسورى:

·       ورغم كل هذا الرعب والانزعاج الذى اصاب الحكام العرب من شراسة الهيمنة والبلطجة والضغوط الامريكية بعد الغزو، الا انهم كان لهم دور كبير فى وصول الأمور الى هذا الحال، منذ أن قررت مصر وسوريا ودول عربية أخرى الالتحاق بالحلف العسكرى الامريكى عام 1990-1991 فيما سمى بحرب تحرير الكويت مع بداية الحشود العسكرية الأمريكية الاولى فى الخليج قبل ان يتم استكمالها فى عام 2003 وما بعدها.

·       وهى المشاركة التى طلبتها الولايات المتحدة لتتصدى لاتهامها بأنها حملة صليبية جديدة ولتضفى قدر من الشرعية على وجودها فى المنطقة من خلال تطعيم هذا الوجود بمشاركات عربية واسلامية رمزية من مصر وسوريا ودول أخرى.

·       ورغم ان الدول العربية التى ساهمت فى شرعنة الوجود العسكرى الامريكى مثل السعودية ودول الخليج هى محميات غربية قديمة منذ منتصف القرن التاسع عشر او نهايات الحرب العالمية الاولى، او مثل مصر الرسمية التى قد اختارت الانحياز والالتحاق والرهان على الولايات المتحدة منذ السبعينات وتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد، الا موقف سوريا الرسمية بقيادة حافظ الاسد لم يكن مفهوما ومقبولا وهو النظام البعثى الشقيق للبعث العراقى الحاكم. وها هو اليوم يدفع اثمانا باهظة نتيجة الوجود والاحتلال العسكرى الامريكى لمساحات واسعة من ترابه الوطنى.

***

انتقال القيادة الى السعودية والخليج:

وكذلك كان من أبرز آثار الغزو وخصائص عصر الهيمنة الامريكية الشاملة، هو ما نراه اليوم من انتقال قيادة المنطقة وريادتها من دول مثل مصر وسوريا والعراق التى تصدرت المشهد لاربعة عقود بعد الحرب العالمية الثانية، الى المحميات الأمريكية التى قال ترامب انها ستسقط خلال اسبوع لو تم رفع الحماية عنها فى السعودية ودول وامارات الخليج. ليس فقط بسببها ملاءتها المالية وانما بسبب ان محميات الأمريكان وقواعدهم العسكرية اكثر كفاءة وطوعا فى تطبيق الاستراتيجيات وتنفيذ التعليمات، من غيرها من الدول العربية التابعة، وهو ما يفسر تصدرها المشهد فى السنوات العشر الماضية سواء فى قيامها بالتطبيع مع (اسرائيل) تنفيذا لصفقة القرن الامريكية واتفاقات ابراهم، او فى قيادتها وتمويلها لاستراتيجية اجهاض الثورات العربية او احتوائها وعسكرتها لتخريبها من الداخل، أو فى ترحيبها بما يسمى بالناتو العربى/الاسرائيلى.

***

سقوط النظام العربى الرسمى:

·       ولكن النتيجة الاهم على الاطلاق، بعد نجاح عملية غزو واحتلال وتدمير العراق، كانت هى سقوط أى شرعية وطنية أو قومية للنظام العربى الرسمى الذى تم تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، كنظام يتبنى اهداف الاستقلال والتحرر والتنمية والوحدة وتحرير فلسطين.

·       فلقد أدركت الشعوب العربية ان سقوط الدولة العراقية بهذا الشكل وهذه السرعة وسط تواطؤ او عجز وصمت انظمة الحكم العربية، يعنى انها خرجت جميعا من الصلاحية ولم تعد قادرة او صالحة للقيام بأدوارها كدول وطنية سيادية مستقلة.

·       ورغم ان الانظمة العربية قد سقطت موضوعيا ووظيفيا عام 2003، الا ان الامر احتاج لثمان سنوات كاملة قبل أن تثور الشعوب العربية لمحاولة اسقاطها فعليا، وهى الثورات التى لم يكتب لها النجاح والتوفيق ولم تمتلك الشروط والامكانيات اللازمة لتحقيق النجاح.

·       ليظل المشروع والهدف والحلم قائما لم يتحقق بعد؛ مشروع بناء نظام عربى بديل يعيد الاعتبار الى الثوابت الوطنية العربية فى الحرية والتحرير والاستقلال والوحدة والحياة الكريمة.

*****

القاهرة فى 20 مارس 2023