بحث فى المدونة

الأربعاء، 10 أبريل 2019

عودة الشيخ وخيمته


((ابحث عن كبيرهم واستقطبه وسيطر عليه واكسب ولاءه، فان نجحت فى ذلك، فسيدينون لك جميعا بالولاء، فهؤلاء القوم ليس لديهم دولة بالمفهوم الحديث، وليس لديهم نظاما دستوريا أو ديمقراطيا ولا مؤسسات أو سلطات مستقلة، وليس لديهم رقيب او تعقيب على قرارات رئيسهم او مليكهم او أميرهم، انهم كالقبائل البدائية، التى يحكمها رجل واحد هو شيخ القبيلة))
كانت هذه هى خلاصة توصيات مستشارى هنرى لكيسنجر، عن كيفية التعامل مع السادات والحكام العرب خلال حرب أكتوبر وما تلاها، والتى اشتهرت بنظرية "الشيخ والخيمة".
***
((لا يوجد فى الوفد المصرى من له تأثير على "السادات"، أما الوفد الاسرائيلى، فبالإضافة الى "بيجين" هناك "موشى ديان" و "وايزمان" و "باراك"، وسيكون لكل منهم دورا مؤثرا))
من تقارير سفيرى امريكا فى مصر وإسرائيل، للرئيس الامريكى جيمى كارتر أثناء التجهيز والإعداد لمباحثات كامب ديفيد وتحليل المواقف المحتملة لكل الأطراف، ودراسة شخصيات الحضور، وكيفية التأثير عليها (من واقع وثائق الـ CIA  عن كامب ديفيد ـ اجتماع مجلس الأمن القومى أول سبتمبر 1978)
***
بعد كل محاضرة كنت أتحدث فيها عن الكتالوج الامريكى لمصر، وكيف سرقوا منا نصر أكتوبر وأعادوا صياغة مصر على امتداد 40 سنة على كافة المستويات، لتجريدها من الرغبة والقدرة على مواجهة المشروع الأمريكى الصهيونى، كان السؤال الدائم والأكثر تكرارا من الشباب المذهول والمصدوم هو ((كيف فعلوها معنا هكذا؟ واين كان الشعب والقوى الوطنية ومؤسسات الدولة، وكيف سمحوا للأمريكان وللنظام بان يفعلوا كل ذلك بمصر؟))
وكانت الإجابة التى أقدمها فى كل مرة هى "نظرية الشيخ والخيمة"، التى قدمها المستشارون فى وزارة الخارجية الأمريكية الى هنرى كيسنجر له عام 1973، ليتسنى له إخراج مصر من المعادلة. وهى المهمة التى نجح فيها بالفعل، ولا يزالوا ينجحون فيها حتى اليوم.
فلقد نجح هنرى كيسنجر فى خطف مصر كلها، حين تمكن من السيطرة على شخص مصرى واحد هو أنور السادات.
وفعلها كارتر مرة أخرى فى مفاوضات كامب ديفيد، التى دخلها السادات منفردا، متجاهلا نصائح كل مستشاريه ووزراء خارجيته الذين استقال اثنان منهم هما إسماعيل فهمى و محمد إبراهيم كامل.
وبالسيطرة على السادات ومبارك من بعده، والتى أدت الى السيطرة على الدولة المصرية كلها، تحولت كل مؤسساتها، بقدرة قادر، من العداء والهجوم على أمريكا و(إسرائيل) وتعبئة الشعب للمعركة، الى بوق فى الاتجاه المعاكس، يروج للسلام وللتبعية، بنفس الأشخاص و بنفس الأدوات وبنفس الأجهزة. انقلبت كلها 180 درجة بجرة قلم.
ومنذ ذلك الحين تغير مصير مصر، ومصير فلسطين، ومصير الأمة العربية كلها، وتغيرت موازين القوى الإقليمية وربما الدولية.
انها قصتنا القديمة الحزينة فى العالم العربى، قصة الزعيم أو الرئيس الذى ينفرد بمصائرنا، سواء كان من الأخيار أو من الأشرار:
·       حَكَم عبد الناصر مصر، فتبعته الدولة فى مشروعه، وعندما مات وانقلب السادات على هذا المشروع، انقلبت معه الدولة.
·       وقاتل بعد 1967 ولم يستسلم للهزيمة، فتبعته الدولة، وحين استسلم السادات بعد الحرب فى كامب ديفيد، وسلم البلد الى الأمريكان، استسلمت معه الدولة.
·       وفى فلسطين، قاتل ياسر عرفات وقاوم 1965ـ 1987، فقاتلت تحت قيادته منظمة التحرير الفلسطينية.
·       وحين إنكسر فى المنفى وقرر الاعتراف بإسرائيل فى أوسلو 1993 وتنازل لها عن 78 % من فلسطين، انكسرت معه المنظمة واعترفت.
·       وحين تخلى ابو مازن عن الانتفاضة وألقى السلاح، ونسق مع (إسرائيل) ضد المقاومة، تبعته السلطة الفلسطينية.
·       وحين سقط صدام حسين فى العراق، سقطت بغداد فى بضعة أيام.
·       ولا تزال السعودية والخليج تُحكَمان بعائلات ومشايخ نصّبها الانجليز ثم الامريكان هناك منذ ما يزيد عن قرن من الزمان.
·       ولدينا ما يزيد عن 400 مليون عربى، يتراجعون وينهزمون كل يوم، أمام ما يقرب من 7 مليون صهيونى، بسبب خوف أو تواطؤ بضعة أفراد لا يتعدى عددهم بضعة عشرات من الحكام العرب.
·       أما مبارك، فلقد فرط فى الكرامة والسيادة والاستقلال والموارد، وتحالف مع الأمريكان، ودعم حصار العراق وغزوه، وحصار غزة والعدوان عليها، بمباركة كاملة من نظامه ودولته.
·       وعندما قرر أن يورث حكم مصر لإبنه، دانت له الدولة، قبل أن يثور عليهم المصريون.
***
أنه الاستبداد فى أسوأ صوره، إنها جرثومة اختصار الوطن والنظام والدولة فى شخص واحد، هو الرئيس أو الزعيم أو الملك أو الأمير، ان فعل فعلنا، وان صمت صمتنا، وان ارتد او انقلب انقلبنا، وان خان خُنّا...
انها أسهل طريقة لاغتيال الأمم والشعوب، اختزالها فى فرد، ثم قتله او احتوائه أو إغواءه أو شراءه او إرهابه أو كسره او الضغط عليه...الخ
هكذا ضاع استقلالنا، وضاعت فلسطين، وضاع العراق وانقسمت الأمة وتدهورت أحوالنا، فاحتللنا موقعنا فى قاع المجتمعات البشرية.
***
ثورة يناير تهدم كل الخيام:
ومن هنا نستطيع أن ندرك القيمة العظيمة والانجاز الأهم لثورة يناير، حين أسقطت وهدمت كل الخيام على رؤوس كل الشيوخ، ولو لم تفعل شيئا سوى ذلك، فهذا يكفي.
وبدلا من الشيخ الواحد أصبح لدينا 90 مليون شيخ، يمثلون الرأى العام بكافة تنوعاته واتجاهاته وإنحيازاته وبكل موضوعيته أو شطحاته، يتربصون فرادى وجماعات بكل صغيرة وكبيرة، لا يتركونها الا بعد ان يقتلونها بحثا ونقدا وتحليلا وسخرية، ولا يتركون رئيسا او حكومة او وزيرا او مسئولا او عسكريا او شرطيا او رأسماليا يهنئ بالحكم او بالسلطة او بالنفوذ.
ورغم ما أثاره هذا الوضع الجديد من مشاعر الضيق والخوف والانزعاج من الفوضى والترحم على هيبة الدولة، إلا انها كانت مسألة ضرورية وردة فعل طبيعية بعد عصور طويلة من الاستبداد والقهر والتغييب، وكان مصيرها ان عاجلا أم آجلا أن تتحول الى أوضاع مؤسسية، تترجم نفسها الى حياة ديمقراطية حقيقية ومستقرة، بالإضافة الى انه كان لها انجازاتها الهامة، وعلى رأسها انه لم يعد يمكن لكائنٍ من كان ان يبيعنا فى "سوق الثلاثاء"، والأمثلة كثيرة ومتعددة:
·       فإسرائيل أصابها انزعاجا شديدا من الثورة المصرية، لأنها خلقت واقعا جديدا يهددها ويهدد مستقبلها، بعد أن أصبحت الشعب المصرى طرفا فى صناعة القرار، فلقد اعتاد قادة الصهاينة منذ نشأة (اسرائيل)، على حد قولهم، على التعامل مع القصور وليس الشعوب.
·       وقبل أى عدوان صهيونى جديد على فلسطين، كان رسائل مؤسسات الدولة المصرية الى نظيرتها فى (اسرائيل)، هى انه لم يعد بالإمكان السيطرة على حالة الغضب الشعبى المتوقعة، على غرار ما كان يحدث فى الماضى.
·       وحين كان صندوق النقد يتفاوض مع الحكومات المتعاقبة على القرض، كان يعلق موافقته على شرط القبول المجتمعي، فى سابقة هى الأولى من نوعها في تاريخ مفاوضاته معنا، قبل ان يعود اليوم لفرض شروطه وتعليماته بلا معلق او معقب.
·       ونجح الضغط الشعبى فى إرغام المجلس العسكرى على تقديم مبارك ورجاله الى المحاكمات، وإرغامه على تقديم موعد الانتخابات الرئاسية سنة كاملة.
·       وحين قامت الانتخابات الرئاسية 2012، شعر الجميع لأول مرة فى تاريخهم، بأنه سيكون لهم دور ورأى فى اختيار من يحكمهم، ورأوا كافة المرشحين على قدم المساواة، يحترمونهم ويخطبون ودهم ويتنافسون على أصواتهم.
·       ونجحت التظاهرات الشعبية فى إسقاط حكومات وإعلانات دستورية وقرارات عسكرية ورئاسية.
·       وتسابق رجال نظام مبارك ومنافقوه، على جبروتهم، على تقديم التوبة وفروض الولاء والطاعة للثورة فى شهورها الأولى، خوفا من الغضب الشعبي.
·       وكانت الدنيا تقوم ولا تقعد فى مواجهة اى اعتقال أو أى اعتداء على أى متظاهر أو مصادرة لأى حرية أو رأى.
·       وأدت الاعتراضات على مشروع ممر التنمية 2013 الى إيقافه ومراجعته، وهو نفس ما حدث مع مشروع قانون التظاهر "الأول".
·       والأمثلة كثيرة وكلها كانت تؤكد على أن الجميع أصبح يعمل ألف حساب للرأى العام المصرى.
***
·       صحيح انها كانت أوقاتا عصيبة ومعاركاً مرهقة أصابت الكثيرين بالاضطراب والتوتر والتردد، إلا أنها كانت مبشرة وواعدة، فلقد نجحت فى فضح وهدم كل الكواليس والغرف المغلقة والبنود السرية والصفقات الخلفية.
·       ولا يجب أن ننسى أبدا أن السيادة فى سيناء قد بيعت هى وغازها وبترولها فى الغرف المغلقة، وكذلك تم توظيف ممرات مصر المائية ومجالها الجوى لخدمة القوات الأمريكية فى غزو العراق، وتم نهب مقدرات البلاد وبيع القطاع العام فى الكواليس، وكل هذا كان يتم بأوامر وتعليمات من "السيد الشيخ الرئيس"، وبالتزام ودعم كامل من مؤسسات دولته.
·       أما خلال ثورة يناير فلقد أصبحت مصر لأول مرة بكل ما فيها ومن فيها على الهواء مباشرة، بلا أسرار أو مونتاج أو تجميل أو تضليل.
***
عودة الشيخ:
واليوم بعد كل هذا التاريخ الأسود لحكم الفرد، وبعد كل هذا النضال وكل هذه التضحيات وكل هذه الحريات التى انتزعناها لأشهر معدودات، استطاعوا للأسف العميق ان يعيدوا العجلة إلى الوراء، وأن يحبسوا مصر فى الخيمة مرة أخرى، وان يحشروا داخلها شعبها الكريم، وأن يضعوا على رأسه شيخا جديدا، ينوى ان يحكمنا الى ما شاء الله.
*****
محمد سيف الدولة

فى الذكرى الأربعين للمعاهدة

هناك تعليقان (2):

العمدة يقول...

برافو...سيف. ...لا فض فوك

غير معرف يقول...

بس السادات حرق دمهم وراح في عقر دارهم لابس كرافتة عليها علامة النازية ، هو اه باع السلام وباع حلم اجيال كاملة بس كان لابس كرافتة حلوة

طبعا دا تعليق المغفلين اللي بيقولو اي كلام اهبل يدارو بيه خيبتنا


كلامك صحيح وهو ده واقعنا للاسف