بحث فى المدونة

السبت، 24 أغسطس 2019

ضمير الناس


هناك صراع لا يهدأ على الرأي العام من حيث تشكيله وتوجيهه والتأثير فيه، ومن حيث صناعته وصُناعه وأدواته ومنابره، بينما لا أحد يتوقف كثيرا عند الضمير العام أو ضمير الشعوب رغم أنه أكثر تأثيرا آلاف المرات من كل الماكينات الجهنمية لتوجيه الرأي العام.
***
·       ففى ظل أنظمة الحكم المستبدة، تسيطر الدولة على كل منابر صناعة الرأي العام من تعليم وصحف واذاعة وتليفزيون وفضائيات وخلافه، ولكن ورغم كل هذه الهيمنة الا انها لا تستطيع الولوج الى ضمير الناس.
·       فالفرق بين الرأي العام والضمير العام، ان الثاني أطول عمرا وأكثر عمقا وترسخا وتجذرا، كما انه لا يمكن سجنه او اعتقاله او إعدامه كما انه يستحيل حصاره أو إقصائه أو اجتثاثه.
·       وحين تقترب منابر الرأى العام من وجدان الضمير العام الأقرب الى الفطرية، فاننا نكون على الاغلب بصدد حياة فكرية وسياسية سوية أقرب الى الحرية والديمقراطية.
·       أما اذا اختلفا وتضادا ووقفا على طرفى نقيض طول الوقت، فسنكون امام واحدة من أبرز خصائص ومعالم انظمة الحكم المستبدة.
·       فالشعوب فى كل بلدان العالم، تدرك بفطرتها منذ اللحظات الأولى، طبيعة النظام الذى يحكمها وطبيعة القائمين عليه، وهل هو نظام صديق يمثلها وينحاز اليها ويسعى الى سد احتياجاتها وتلبية مطالبها، ام انه يكرهها ويعاديها ويعمل على قهرها وامتصاص دمائها وينحاز ويتحالف مع مستعمريها ومستغليها من الخواجات والرأسماليين والفاسدين وناهبى مقدراتها ومحتكرى ثرواتها.
***
·       وفى لحظات الردة والانكسار الشعبى والسياسى يحتمى الناس بهذا الضمير، تماما كما نفعل اليوم فى تمسكنا بثورة يناير، ورفضنا للارتداد عليها، مهما أطلقوا علينا من اعلام ودعايات ومهما كمموا الافواه وحظروا الكلام وحاصروا المفكرين والسياسيين والكتاب.
***
·       ومن أوضح الأمثلة وأقربها على عمق تأثير الضمير العام فى حياة الشعوب، هو ما حدث مع ما يسمى بصفقة القرن، حين تواطأ مع امريكا واسرائيل، بالمشاركة او بالصمت، عدد من الانظمة العربية لتصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية، بينما تفجرت حالة عامة من الرفض والغضب العربى من كل الشعوب العربية بدون استثناء.
·       وهو تكرار لما حدث فى مصر على امتداد 40 عاما مع اتفاقيات كامب ديفيد والصلح مع العدو الصهيونى، فرغم الجهود الهائلة التى بذلتها ثلاثة أنظمة متتالية من السادات مرورا بمبارك وصولا الى عبد الفتاح السيسى، من الترويج لمكاسب السلام الزائفة، الا ان الضمير الشعبى العام فى مصر، لا يزال فى غالبيته ينظر لاسرائيل على انها العدو الاول لمصر وللعرب، ويتمسكون بأن الارض الواقعة على حدودنا الشرقية هى فلسطين وليست (اسرائيل).
·       ولقد ظهرت اهمية الضمير الشعبى وخطورته وتأثيره بوضوح أيضا فى قضية تيران وصنافير، حين تمسك كل المصريين بحقهم الوطنى والتاريخى فى الجزيرتين، رغم كثافة الحملات الاعلامية السلطوية الموجهة المصحوبة بحملات اعتقال هستيرية.
·       كما ظهرت رهافة ضمير شعبنا الكريم وذكائه وفطنته ونضوج وعيه فى الفرق الهائل بين تفاعله واقباله منقطع النظير على الاستحقاقات الانتخابية اثناء ثورة يناير وبين عزوفه وانصرافه ومقاطعته وسخريته مما سبقها او ما تلاها من مسرحيات انتخابية هزلية.
·       وايضا فى الموقف الفطرى من الاحكام القضائية فى القضايا السياسية، حيث تتم محاسبة وتجريم وعقاب كل من يعترض عليها وينتقدها، بينما لا تملك أكثر قوانين وسلطات العالم قسوة واستبدادا اى سلطان على ضمير الناس ووجدانها تجاه أى شعور بالظلم حتى لو التزمت الصمت خوفا واكراها.
·       وكذلك فى مجال معايش الناس وحياتها اليومية، فان غالبية الطبقات الشعبية الفقيرة والمتوسطة والتى تزداد فقرا كل يوم، ورغم انها ليست خبيرة أو متخصصة فى الاقتصاد، الا انها لا تصدق ما تصدره الحكومة ومن ورائها مؤسسات الاقراض الدولى من بيانات واحصاءات عن تحسن الأحوال و زيادة معدلات النمو وارتفاع الاحتياطى النقدى ونجاح الاصلاحات الاقتصادية وانخفاض نسبة البطالة ..الخ، وتدرك بفطرتها وضميرها وخبراتها الطويلة مع الحكومات المتتالية ان السياسات الاقتصادية للسلطة وانحيازاتها الطبقية هى التى تؤدى الى افقار الناس والى سيطرة واحتكار رؤوس الاموال الاجنبية مع قلة من الاغنياء وكبار رجال الدولة على مقدرات البلاد.
·       وهو ما ينطبق ايضا على الموقف من الفساد ونهب المال العام، حيث ان الناس بحساسية ضمائرها وقوة فراستها قادرة على رصد واشتمام رائحة الفساد أينما وجدت أكثر ألف مرة من أي اجهزة رقابية.
·       كما تتجلى قوة الضمير العام على الدوام فى المقارنة بين عمق مشاعر التقدير والتبجيل والاحترام التى يكنها الناس لكل من يتوسمون فيهم الوطنية الحقة والاخلاص وصدق النوايا، وبين احتقارهم وسخريتهم المستمرة من كل كتائب الآفاقين والمنافقين والكاذبين الذين يحتكرون المنابر الاعلامية.
·       وربما تكون لحظات الوداع ومشاعر الحزن وآلام الفراق للقادة والرواد والكتاب والمفكرين والمناضلين والمبدعين والاساتذة والشيوخ من الشخصيات العامة هى اصدق تعبير وأكبر استفتاء للضمير العام حول الموقف من أى شخصية راحلة.
·       والأمثلة كثيرة.
***
ولكن من الذى يصنع ضمير الشعوب وكيف؟ ومن هم حراسه اليوم؟
·       انها اولا حضارة الامم المتوارثة عبر الاجيال، بكل مكوناتها من عقائد دينية وقيم أخلاقية، وخصائص جغرافية وتكوينات قومية وانتماءات وطنية، وتجارب وتحديات ومعارك ومنعطفات تاريخية، وملاحم وأساطير بطولية، وثقافات محلية وعالمية، ونماذج وقدوات بشرية كالرسل والأنبياء والفلاسفة والعلماء والمفكرين والزعماء والقادة والمعلمين والدعاة وهكذا.
·       بالاضافة الى قائمة طويلة وممتدة من الشخصيات العامة المعاصرة المحترمة والمستقلة باختلاف توجهاتها وتخصصاتها، المسلحة بثوابت الأمة وبقيمها وهويتها الحضارية، الواعية بتاريخها وخصائصها وعناصر قوتها ومواطن ضعفها ومعسكرات اصداقائها واعدائها وبمصادر التهديدات والمخاطر عليها، والمنحازة لشعبها والمدركة لاحتياجاته ومصالحه، والتى لم تنافق نظاما او سلطة او حاكما فى حياتها.
·       ورغم كل ما تتعرض له من حصار وتهميش وتجاهل ومطاردة قد تصل احيانا الى التشهير والتشويه والاعتقال، الا انها شديدة التأثير فى المحيطين بها، انهم ممن يمكن أن نطلق عليهم "الصادقون الأمناء" فى كل عصر وكل مكان، وان كانوا ليسوا أنبياء، الا انهم لا يبتغون سوى وجه الحق والعدل والعدالة.
·       ولذا يصعب القضاء على تأثيرهم بين الناس، وهذا هو مصدر قوتهم ونفوذهم الطاغى فى أى مجتمع، فاعتقالهم ونفيهم او حتى إعدامهم، يحيى وينشط من هرمونات الضمير العام وليس العكس.
·       حتى صمتهم يكون له تأثيرا كبيرا فى كثير من الاحيان، ففى امتناعهم عن المشاركة فى موالد ومهرجانات النفاق الجماعى، ادانة ضمنية للعصر وللسلطة والحاكم. وكثيرون منهم يتعرضون للتضييق والحصار وحتى للاعتقال عقابا لهم على صمتهم.
***
أستطيع ان اذكر أسماء مئات من الذين أعلمهم أو تعرفت عليهم او تتلمذت على اياديهم من هذه الشخصيات، ولكننى لن افعل، لأنهم يقدرون بالآلاف فى كل مجتمع، وليس بالضرورة ان يكونوا مشهورين على مستوى عامة الناس، بل قد يقتصر تأثيرهم فى دوائرهم المحلية الضيقة؛ فى محافظاتهم او قراهم او جامعاتهم او مدارسهم او حتى فى عائلاتهم.
وكثيرا ما كنت أسأل الشباب عن أحوالهم فى ظل ما تعيشه البلاد والمنطقة كلها من صراعات وأزمات ومظالم وانكسارات وطنية وسياسية كبرى، فيجيبون بأنه عندما تمر الأمة بهزيمة او انتكاسة كبرى او بسنوات عجاف أو يكون هناك فتنة فى قضية ما أو أوضاع ضبابية ومتداخلة تثير الشك والالتباس والحيرة، أو حين يواجهون حملات اعلامية موجهة وشرسة للترويج لفكرة او لموقف، فانهم يسترشدون بأفكار ومواقف وآراء وكتابات شخصيات بعينها يعتبرونها بمثابة مرجعيات فكرية واخلاقية ووطنية موثوق بها. والتى غالبا ما يجدونها متفقة على رأى واحد أو متقارب، فتطمئن قلوبهم.
أمثال هؤلاء هم الذين يشكلون ضمير الأمم.
***** 
محمد سيف الدولة

ليست هناك تعليقات: