الحرية هى العبودية
محمد سيف الدولة
Seif_eldawla@hotmail.com
الحرية هى العبودية، والحرب هى السلام، والجهل هو القوة.
كانت هذه هى الشعارات الثلاثة للنظام الحاكم فى الرواية
الشهيرة "1984" للكاتب الانجليزى "جورج اورويل" الذى كتبها
عام 1948 بعد الحرب العالمية الثانية، والتى اراد فيها ان يفضح ويكشف طبيعة الأنظمة
الاستبدادية وقسوتها وجبروتها فى كل زمان ومكان، فتخيل نظاما مستقبليا شديد
الاستبداد والفاشية، ثم قام بالغوص فى تفاصيله وملامحه ليقدم لنا فى النهاية صورة بالغة
السواد. كثير من هذه الملامح سنجدها بدرجات متفاوتة، فى الأنظمة التى تحكمنا فى مصر والوطن العربى
والعالم. ان هذه الرواية تقدم ما يمكن ان نطلق عليه "بالنظام المستبد
النموذجى"، ولذا أتصور انها تستحق القراءة.
وفيما يلى بعض المقتطفات التى انتقيتها منها
بقدر من التصرف :
***
كان النظام شديد الاستبداد يحكم الناس بالحديد والنار،
ويجبرهم على تقديم فروض الولاء والطاعة والخضوع التام للزعيم الأوحد الذى يطلقون عليه "الأخ الكبير"، الذى تنتشر صوره بالملايين فى
كل مكان، مكتوبا تحتها ((الاخ الكبير يراقبك))
وكانت عينا هذا الاخ الكبير تلاحقانك على العملة، على
الطوابع، على أغلفة الكتب، على الأعلام، على ألواح الإعلانات، على علب السكاكر. فى
كل مكان ودائما، عيناه تراقبانك وصوته يحيط بك. وسواء كنت مستيقظا او نائما، تعمل
او تأكل، داخل منزلك او خارجه، فى الحمام او الفراش لا فرق، لا مهرب لك. انت لا
تملك سوى تلك السنتيمترات المكعبة داخل جمجمتك.
نظام يراقب الناس فى كل مكان بواسطة شاشة تسمى "شاشة الرصد" تلتقط وتسجل اى صوت أو حركة،
يراقبهم داخل بيوتهم وفى أماكن عملهم، فى الغرف والطرقات ودورات المياه وفى
الشوارع والمقاهى والمتاجر، يعد عليهم أنفاسهم ويعتقلهم ويعذبهم ويقتلهم لأتفه
الاسباب، ولذا كان الناس يعيشون ويتصرفون، مفترضين ان كل صوت يصدر عنهم مسموع وان
كل حركة مرصودة
***
وكانت الاعتقالات تقع دائما تحت جنح الليل، حيث يفزع الضحية
من نومه على يد خشنة تهزه بغلظة، فيفتح عينيه على ضوء ساطع مسلط على عينيه، فيجد
مجموعة من رجال ذوى وجوه عابسة يتحلقون حوله وهو ما يزال فى فراشه. وكانت اغلب هذه
الحالات تمر دون محاكمات او محاضر اعتقال، حيث كان الناس يختفون اثناء الليل. وكان
اسمك يشطب من السجلات ويشطب معه كل شئ يتعلق بك او لك فيه ذكر، حتى ان النكران
يطال فكرة وجودك اصلا ثم يتم نسيانك. لقد انتهيت ثم تلاشى ذكرك وكانك تبخرت.
***
وكانوا يقومون يوميا بجمع الناس فى أماكن عملها فى ما
يسمى بفاعليات "دقيقتى الكراهية"، ويقوموا بتتويج هذه الجهود مرة من كل
عام فى احتفالات ضخمة على مستوى البلاد تسمى "باسبوع
الكراهية"، يقومون فيها بحشد الناس وتعبئتها ضد العدو الافتراضى،
وغالبا ما يكون عدوا مختلفا فى كل مرة، ولكن لا بد دائما من أن يكون هناك عدوا،
ولابد من أن تعم الكراهية، وكما قالت احدى شخصيات الرواية : ((هناك دائما حرب
دموية تتلوها حرب دموية اخرى، والكل يعرف ان هذا كله محض اكاذيب))
وفى هذا الاسبوع كانت تنطلق المواكب والخطب والهتافات
والأناشيد والرايات والملصقات والأفلام وتماثيل الشمع ودق الطبول ونفخ الابواق
ووقع اقدام الجنود وضجيج جنازير الدبابات وأزيز اسراب الطائرات ودوى المدافع،
ويعبأ الناس ويحشدون فى الميادين حبا و تأييدا للزعيم "الأخ الكبير"ضد
العدو الخطير الشرير.
***
وكان الفكر يمثل جريمة يسمونها"جريمة
الفكر"، أسسوا لها شرطة خاصة
تسمى بشرطة الفكر، وتصل العقوبة فيها الى الاعدام. فالولاء يعنى انعدام التفكير،
بل انعدام الحاجة للتفكير. الولاء هو عدم الوعى.
وكان مصدر خطورتها هى ان التفكير ليس بالأمر الذى يمكن
اخفاؤه الى الأبد، فربما يمكنك مواراته عن العيون لحين من الزمن او حتى لسنوات، ولكن
ان عاجلا او آجلا لابد ان تقع فى قبضتهم.
وكان أحد فروع جريمة الفكر هى "جريمة
الوجه"، فمن الخطر الجسيم ان تدع افكارك تجرى على عواهنها حينما تكون
فى مكان عام او ضمن مدى شاشة الرصد. فأهون الاشياء يمكن ان تودى بك حتى لو كانت
حركة عصبية صغيرة او نظرة قلق لا ارادية او همهمة اعتادها المرء، او اى شئ يوحى
بنقص فى الولاء. وفى كل الاحوال فان ظهور تعبير انفعالى غير لائق على وجهك كأن
تبدو عليك علامات الارتياب حينما يتم الاعلان عن احد الانتصارات، هو مخالفة تستوجب
عقابا.
***
وكانوا يعيدون صياغة الحقائق والوقائع وتزويرها باستمرار
لكى تتلاءم مع مواقف الاخ الكبير والحزب،
فيوما بيوم وربما دقيقة بدقيقة يتم "تحديث الماضى" بما يجعله يتوافق والحاضر،
فالتاريخ كله كان بمثابة لوح تم تنظيفه لإعادة النقش عليه بما تستلزمه مصلحة
الحزب،
ان الماضى قد تم محوه محوا تاما، اننا لا نكاد نعرف شيئا
محددا عنه، فكل السجلات تم اتلافها او تحريفها، وكل كتاب اعيدت كتابته، وكل صورة
اعيد رسمها، واسم كل تمثال وشارع وبناية جرى استبداله، وكل تاريخ جرى تحريفه.
***
وكانوا يؤسسون "لغة
جديدة" يعملون فيها على تقليص عدد الكلمات ويدمرونها، لأنه بذلك
ستتقلص مساحة الوعى والإدراك، كانت غايتهم هى التضييق من آفاق التفكير، بحيث تصبح
جريمة الفكر فى نهاية المطاف جرما مستحيل الوقوع من الناحية النظرية، وذلك لانه لن
توجد كلمات يمكن للمرء من خلالها ان يرتكب هذه الجريمة.
***
وكانوا يرغمون الناس على ممارسة الرياضة الصباحية أمام
شاشات الرصد، ومن يتخلف يعاقب، ويجب ان تبدو عليك ملامح الانشراح، ثم تأتيك
تعليمات المدربين الذين يمكنهم أن يروا الجميع حتى فى منازلهم: ((خذوا أماكنكم، اثنوا جذوعكم، واحد اثنين
واحد اثنين، اراك يا رقم 6079، اداؤك سئ، مزيد من الانحناء، هيا يا رفاق، تذكروا
ابناءنا على الجبهة...))
***
وكان هناك دائما فاعليات واحتفاليات "الاعدامات" التى تنفذ داخل زنانزين "وزارة المحبة" أو فى الميادين العامة، وسط
الهياج والصياح والرغبة الهستيرية فى القتل والانتقام لدى العامة. ولقد عبر المؤلف
على لسان احد شخصياته الشغوفة بحضور عمليات الاعدام حين قال : ((كانت عملية شنق
اليوم جيدة، غير انهم على ما اعتقد افسدوها بربط القدمين معا، كنت ان احب ان اراهم
وهم يرفسون بها. لكن اللحظة الاكثر اثارة كانت تأتى فى النهاية، حينما يتدلى
اللسان الى الخارج وقد اصبح داكن الزرقة. ان تلك اللحظة هى التى تحوز اعجابى))
***
يتبع
فى المقال القادم باذن الله
القاهرة فى 15 يونيو 2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق