محمود خضيرى.. القاضى الفدائى
محمد سيف الدولة
Seif_eldawla@hotmail.com
لشيخ القضاة المستشار يحيى الرفاعى، مقولة شهيرة
فحواها:"أن غالبية القضاة شرفاء، ولكنهم ليسوا فدائيين".
ولقد قالها فى سياق مطالبته باستقلال القضاء، وتحصين
القضاة فى مواجهة ضغوط و اغراءات و تجاوزات السلطة التنفيذية لتزوير الانتخابات.
فهو يرى ان غالبية القضاة يرفضون تزوير الانتخابات،
ويودون لو تمكنوا من الاشراف عليها اشرافا حقيقيا فى مواجهة عبث أجهزة السلطة
التنفيذية. ولكنهم من ناحية أخرى ليسوا جميعا على استعداد لتعريض انفسهم لاعتداءات
وتجاوزات وإهانات رجال الشرطة فى اللجان الانتخابية، او لانتقام ومضايقات وجزاءات وزارة
العدل ورئاسة الجمهورية فيما بعد.
وهو ما يتطلب توفير كافة الضمانات لاستقلال القضاء
وحماية القضاة فى مواجهة تغول وتدخل و انتقام السلطة التنفيذية، كشرط لتمكينهم من
القيام بالأدوار المنوطة بهم، و تحقيق فاعلية الاشراف القضائى والنزاهة التامة للانتخابات.
***
ورغم هذا التوصيف الواقعى للرفاعى، الا ان المستشار
محمود الخضيرى كان واحدا من الاستثناءات لهذه القاعدة، فلقد كان من القضاة القلائل
الذين قرروا واختاروا ان يكونوا فدائيين غير عابئين بالعواقب.
كان من تلاميذ شيخ القضاة، ومن رموز وقيادات تيار
الاستقلال الذى ادار وقاد نادى القضاة خلال العشر سنوات الاولى من الالفية الجديدة،
والذى انحاز الى، والتحم مع مشروع القوى الوطنية المصرية وحلمها بمجتمع حر
وديمقراطى وعادل فى مواجهة نظام مبارك التابع والمستبد والفاسد. وهو الانحياز الذى
كان له بالغ الأثر فى التمهيد لثورة يناير.
***
لم يكن الخضيرى، قاضيا صغيرا لن يخسر الا القليل، وانما تقلد
أرفع المناصب فى سلك القضاء، فكان احد نواب رئيس محكمة النقض. وهو منصب يوفر لصاحبه
مكانة اجتماعية ممتازة، وشبكة قوية من المعارف والعلاقات العامة بكافة مؤسسات
الدولة ورجالها. كان يملك لو اراد ان يوظفها للاقتراب من السلطة والفوز بأحد
مناصبها التنفيذية، أو لتحقيق مجموعة من الفوائد والمكاسب والامتيازات الشخصية كما
يفعل غيره. او على اضعف الايمان ان يكتفى بها و يعيش ما تبقى له من سنوات فى هدوء وأمان
وراحة بال بعيدا عن المخاطر والمضايقات والمطاردات.
ولكنه رفض كل ذلك، وتحدى استبداد النظام الحاكم، فى أوج
قوته، وناضل مع رفاقه من أجل استقلال السلطة القضائية وتحرريها من قبضة السلطة
التنفيذية. مع ادراكه الكامل لما يمكن ان يترتب على ذلك من عواقب.
بل انه قرر، رغم كل المخاطر، واحتجاجا على أحواله
والتدخل فى شئونه، ان يترك سلك القضاء، ويضحى بما يوفره له من حصانة، فاستقال من
المنصة عام 2009 فى عز جبروت نظام مبارك، وقبل ان يخطر على بال أحد انه أوشك على
السقوط، وان هناك ثورة على الابواب.
***
وفى السنوات القليلة بين استقالته وقيام الثورة، شارك
بكثافة وايجابية فى عديد من فاعليات و أنشطة القوى السياسية المعارضة. اتذكر منها
على وجه الخصوص، مشاركاته فى ندوات ومؤتمرات نصرة فلسطين والمقاومة ضد الاحتلال
وحروبه العدوانية، وفى المطالبة بفك الحصار ورفض الجدار الفولاذى الذى اقامه مبارك
على الحدود المصرية الفلسطينية بتوجيه من اسرائيل والولايات المتحدة الامريكية.
***
وحين تفجرت الثورة، كان أحد المقيمين الدائمين فى ميدان
التحرير، لم يغادره الا الى ميادين الاسكندرية. وكان احد الحكماء والمرجعيات الذى
تحرص كل مجموعات الثورة المختلفة على اشراكه ومشورته فى قراراتها الميدانية. ولا
اقول انه كان احد قيادتها، لان الثورة لم يكن لها قيادة موحدة.
لقد كان من ابرز المشاركين في الثورة منذ لحظاتها
الأولى، قبل ان يتضح الخيط الأبيض من الأسود، قبل موقعة الجمل، حين كانت الامور لا
تزال على المحك، والمعركة لم تحسم بعد، ومخاطر وعواقب المشاركة جسيمة، والمصائر
مجهولة والاحتمالات والعواقب كلها واردة. و كان نظام مبارك لا يزال على الأرض، ولا
يزال يجتمع مع المجلس العسكرى الذى لم يكن قد أعلن بعد امتناعه عن ضرب المتظاهرين،
بل كان يرسل طائرات "إف 16" لإرهاب المعتصمين فى الميدان. وحين كان لا
يزال كثيرون يدعمون مبارك ويدينون المعتصمين، وآخرون مترددون لم يحسموا موقفهم
بعد، خوفا من فشل الثورة وتحمل العواقب.
***
وتقديرا لمواقفه الوطنية و الشجاعة، كرمه الشعب المصرى
بعد الثورة، فقاموا بانتخابه فى اول انتخابات نزيهة تشهدها البلاد منذ زمن بعيد، ضد
طارق طلعت مصطفى، أحد كبار مليارديرات مبارك وعضو الحزب الوطنى، لينهى الاحتكار الذى
استمر ربع قرن من آل طلعت مصطفى للدائرة الثانية بالاسكندرية.
***
وبمتابعة أبرز مواقفه بعد الثورة، نجده كان من أهم
المطالبين بتطهير الحياة السياسية والشرطة و القضاء، ولقد طالب فى سياق ذلك
باستبعاد كل القضاة الذين شاركوا فى تزوير الانتخابات فى اعوام 2010 و 2005 و ما
قبلهما. وكشف عن تعاون البعض منهم مع جهاز مباحث امن الدولة فى هذا الشأن. وهو ما
عرضه، مع بدايات عودة مؤسسات مبارك الى الظهور، للتحقيق بتهمة الاساءة الى السلطة
القضائية وإهانة القضاء، وتم اخلاء سبيله بكفالة 3000 جنيه. ولكن يبدو ان النوايا
كانت مبيتة للثأر منه وعقابه على مواقفه قبل الثورة و بعدها.
***
وبالفعل تم اعتقال الخضيرى فى 25 نوفمبر 2013، وتقديمه
للمحاكمة مع آخرين و ادانته بالسجن لثلاث سنوات بتهمة تعذيب احد الاشخاص فى ميدان
التحرير فى يوم 3 فبراير 2011 أى
فى اليوم التالى لموقعة الجمل.
لتكون ادانته بمثابة "السابقة" و "الكاشفة"
؛
سابقة من حيث
انها اول ادانة على افعال ومواقف وقرارات اتخذها الثوار فى خضم ايام الثورة الأولى،
أى فى الـ (18 يوم البِيض)، والتى كانت تعتبر قبل هذا الحكم القضائى، فى مصاف
الاعمال البطولية و الثورية، ومن قبيل الادارة الحكيمة للميدان وحماية الثورة والمعتصمين
من الاختراق والفتن ومؤامرات النظام وأمنه.
وهى كاشفة من حيث انها كشفت عن حقيقة موقف السلطة الحالية
بكافة مؤسساتها من ثورة يناير، التى يعتبرونها، على عكس ما يدعون، كارثة وفوضى وجريمة
تستوجب العقاب والانتقام.
فالجميع يعلم علم اليقين أنه بعد موقعة الجمل، قرر
الثوار فى ميدان التحرير بالإجماع، تحصين الميدان، وفرض اجراءات صارمة على كل من
يدخله، وتشكيل لجان امنية تشرف على المداخل والمخارج وتفتيش المارة والتحقق من
شخصياتهم، وتوقيف المخبرين ورجال الامن والشرطة السريين، والتحقيق معهم وتسليمهم
الى القوات المسلحة..الخ. وهى الاجراءات التى نجحت الى حد بعيد فى حماية
المعتصمين، ولولاها لارتفع عدد شهداء الثورة اضعافا مضعفة.
وكثيرا ما كان الشباب يفقدون السيطرة على غضبهم، بالذات
بعد ان سقط من بينهم شهداء برصاص قوات الامن والقناصة والبلطجية، فكانوا ينهالون
بالضرب على الجواسيس والبصاصين، الى ان يتدخل الشيوخ والعقلاء من امثال المستشار
الخضيرى لإنقاذهم وتحريرهم من ايادى الغاضبين.
***
ثم بعد كل ذلك يكون السجن هو مصير مستشارنا الجليل بتهمة
متهافتة! ولا تتناسب مع عمره الذى يناهز 75 عاما، ولا مع حالته الصحية التى تتطلب
اصطحابه الدائم لمرافق بسبب ضعف بصره.
بل انه من المفارقات المؤلمة والصادمة
والدالة فى نفس الوقت، انه بعد مرور اربع سنوات على الثورة ضد "مبارك" ،
يقبع أبرز معارضيه من القضاة فى السجن، بينما يتقلد اقرب رجاله منصب وزير العدل.
***
وفى الختام، نسجل قلقنا البالغ وخوفنا الشديد على كل
المعتقلين من المسنين والمرضى، لا قدر الله، من مصير عديد من نظرائهم الذين
استشهدوا فى السجون على امتداد العقود الماضية. نذكر منهم المرحوم المهندس عبد
العظيم أبو العطا، الذى اعتقله السادات فى سبتمبر 1981، رغم سابق اختياره له وزيرا
للرى و للزراعة، وموته فى السجن بعد اصابته بوعكة صحية لم يجد من يسعفه منها.
كما نذكر الدكتور محمود القاضى الذى كان من أشرس معارضى
السادات وكامب ديفيد فى برلمان 1976 الذى تم حله عام 1979، وتم اعتقاله أيضا فى
سبتمبر 1981، وتدهورت صحته بشدة فى السجن، ليتوفاه الله فى العام التالى لخروجه
منه عن عمر يناهز 59 عاما. والقائمة تطول.
***
حفظ الله
المستشار الجليل محمود الخضيرى، والحرية له ولكل المعتقلين من الثوار و المظلومين،
وفى مقدمتهم المرضى والمسنين.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق